أدوات الوصول

Skip to main content

الطعن الدستوري رقم 5/ 70 ق

نشر في

خلاصة المبدأ


القانون رقم 5 لسنة 2023 م بشأن إنشاء المحكمة الدستورية العليا في ليبيا – الطعن بعدم دستوريته– مآله – سببه

الحكم 

الوقائع

أقام الطاعن هذا الطعن بموجب صحيفة اختصم فيها الممثل القانوني لمجلس النواب بصفته قال بياناً لها: 

إن مجلس النواب أقر بتاريخ 2022.12.06 م قانوناً باستحداث محكمة دستورية، وذلك بالمخالفة للتشريعات الدستورية الحاكمة، وإنه يقيم هذا الطعن طالباً الحكم بقبوله شكلاً لرفعه من ذي صفة، وفي الموضوع بعدم دستورية ذلك القانون، وبإلزام المطعون ضده بالمصاريف والأتعاب.

الإجراءات

بتاريخ 2022.12.12 م قرر محامي الطاعن الطعن بعدم الدستورية بموجب صحيفة لدى قلم كتاب المحكمة العليا، مسدداً الرسم ومودعاً الكفالة و سند وكالته، ومذكرة بأسباب الطعن وأخرى شارحة، ونسخة من القانون المطعون فيه، وأخرى من بيان رئيس مجلس النواب بإصداره وبتاريخ 2022.12.21م، أودع أصل ورقة إعلان الطعن معلنة إلى إدارة القضايا يوم 2022.12.20.

أودعت إدارة القضايا حافظة مستندات ومذكرة ضمنتها أصلياً دفعاً ببطلان الطعن للتقرير به من غير ذي صفة، وبعدم قبوله شكلاً للتجهيل بالمسألة الدستورية، ولانعدام محله، ولانتفاء المصلحة الشخصية المباشرة في جانب الطاعن.

واحتياطياً برفض الطعن.وأودعت نيابة النقض مذكرة أبدت فيها رأيها بقبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع بعدم دستورية القانون المطعون فيه.

وبالجلسة المحددة لنظر الطعن، تمسكت نيابة النقض برأيها وحجزت الدعوى للحكم بجلسة 2023.5.31م، وفيها أعيدت الدعوى للمرافعة بناءً على طلب محامي الطاعن فأودع نسخة من الجريدة الرسمية، العدد الخامس، السنة الأولى، الصادر في 2023.4.06م تضمنت نشر [القانون رقم 5 لسنة 2023م بإنشاء المحكمة الدستورية العليا في ليبيا الصادر في 2023.3.29م، منتهياً إلى طلب القضاء بعدم دستورية هذا القانون والحاضر عن إدارة القضايا تمسك بدفوعه السابقة وطلب حجز الدعوى للحكم، وقررت المحكمة ذلك بجلسة اليوم.

الأسباب

حيث إنه عن شكل الطعن، فإن ما أثارته إدارة القضايا من دفوع، فهي في غير محلها.فأما الدفع ببطلان الطعن للتقرير به من غير ذي صفة بمقولة إن الطاعن رفعه بصفته صفه تتصل بجهة عامة تنوب عنها قانوناً إدارة القضايا، فهو غير صحيح، ذلك أن صحيفة الطعن تكشف بجلاء عن أن الطاعن قد رفعه عن نفسه لا بصفته، وهو ما تنعقد معه الصفة في تمثيله لأي محام مقبول للترافع أمام المحكمة العليا ما دام موكلاً منه.ولا يغير من هذا بيان الطاعن في صحيفته أنه رئيس مجلس الدولة ؛ إذ إن هذا جاء في معرض بيان مهنته المشترطة كأحد بيانات صحيفة الطعن.ولذلك فإن الطعن يكون مقرراً به من ذي صفة بما يتعين معه الالتفات عن هذا الدفع.

وحيث إنه عن الدفع بعدم قبول الطعن للتجهيل بالمسألة الدستورية التي خالفها القانون المطعون فيه، والدفع بانعدام محل الطعن، فمردودان بما تضمنته صحيفة الطعن و المذكرة الشارحة وطلبات الطاعن الختامية بجلسة المرافعة من بيان لكل ذلك على النحو الذي سيأتي ذكره.وأما عن الدفع بانتفاء المصلحة الشخصية المباشرة للطاعن، فإن قضاء هذه المحكمة جرى على أن للمصلحة في الدعوى الدستورية مفهوماً خاصاً يختلف عنه في الدعاوى الأخرى.فهي تتحقق في جانب الطاعن متى كان التشريع الطعين واجب التطبيق عليه، أو أن تطبيقه عليه سيكون حتمياً.ولا تنتفي المصلحة الدستورية عن الطعن في أي تشريع أو إجراء مخالف للدستور إلا إذا انحصر تطبيقه في فئة لا ينتمي الطاعن إليها.وحيث إن القانون المطعون فيه قانون بإنشاء محكمة دستورية عليا، وهو قانون يخاطب عموم الأفراد والهيئات في البلاد، ويتعلق بحقهم في التقاضي بطريق الدعوى الدستورية والذي هو حق أساسي مقرر بموجب الدستور، لذا فإن المصلحة الشخصية المباشرة للطاعن – بوصفه أحد المخاطبين بأحكامه – تكون قائمة ما يلزم عنه رد الدفع بانتفائها.

وحيث إن الطعن استوفى أوضاعه الشكلية المقررة، فهو مقبول شكلاً.

حيث إن الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا، وبما لها من هيمنة على الدعوى الدستورية، هي التي تعطيها وصفها الحق وتكييفها القانوني الصحيح، بعد أن تكشف عن ماهيتها، وتحدد المقصود منها، متقصية في سبيل ذلك إرادة المدعي، مستظهرة حقيقة طلباته ومراميها دون التقيد بحرفية ألفاظها ومبانيها.

وحيث إنه من المقرر فى قضاء هذه المحكمة أن المدعي هو الذي يحدد طلباته أمام القضاء، وأن له أن يقدّم من الطلبات ما يتضمن تصحيحاً للطلب الأصلي أو تعديلاً في موضوعه لمواجهة ظروف طرأت أو تبينت بعد رفع الدعوى.ولهذا فإن العبرة في تحديد ما يطلبه المدعي من المحكمة حماية للحق أو المركز القانوني الذي يستهدفه بدعواه إنما هي بطلباته الختامية وقت قفل باب المرافعة، لا بالطلبات التي تضمنتها صحيفة الدعوى وحيث إن المدعي أقام دعواه الماثلة طعناً في دستورية القانون الصادر عن مجلس النواب بإنشاء محكمة دستورية لما وقع فيه من مخالفة دستورية.وحيث إنه في تعريفه بهذا القانون وإثبات صدوره وتحقق نشره، قدم للمحكمة في جلسة 2023.5.31م نسخة من الجريدة الرسمية التي احتوته تحت اسم (القانون رقم 5 لسنة 2023م بإنشاء المحكمة الدستورية العليا في ليبيا)، مفصحاً عن طلباته الختامية في الدعوى، محدداً لها في طلب القضاء بعدم دستورية هذا القانون، فيما تمسك عضو إدارة القضايا الحاضر عن المطعون ضده بصفته بما كان قدمه من دفاع منتهياً إلى طلب حجز الدعوى للحكم.لذا فإن الدعوى في تكييفها الصحيح هي دعوى بعدم دستورية القانون رقم 5 لسنة 2023م، بإنشاء المحكمة الدستورية العليا في ليبيا، الصادر عن مجلس النواب في مدينة بنغازي، بتاريخ 7 رمضان 1444 هـ، الموافق 2023.3.23م، المنشور في الجريدة الرسمية لسنة 2023 العدد 5 السنة الأولى، ومن ثم فإنها لمن الدعاوى التي تستنهض ولاية هذه الدائرة بالمحكمة العليا للفصل فيها استناداً إلى نص المادة 23 من القانون رقم 6 لسنة 1982م بإعادة تنظيم المحكمة العليا، والتي تقضي باختصاص المحكمة العليا دون غيرها، منعقدة بدوائرها مجتمعة، بالفصل في الطعون التي يرفعها كل ذي مصلحة في أي تشريع يكون مخالفاً للدستور.

وحيث إنه ولئن كانت هذه الدائرة قد فصلت من قبلُ في موضوع دعوى بعدم دستورية القانون الصادر عن مجلس النواب بإنشاء محكمة دستورية، وذلك في الطعن الدستوري رقم 70/4 ق، إلا أن تغاير القانون موضوع الدعوى الماثلة عنه في تلك يجعل منهما دعويين متمايزتين تماماً، ويفرض عليها من ثم الولوج إلى الموضوع للفصل فيه.فالقانون الأول صادر في عام 2022م، فيما الثاني في عام 2023م، وبعد قضاء هذه المحكمة بعدم دستورية الأول.لا رقم للأول، ورقم الثاني 5 لسنة 2023م.موضوع الأول (إنشاء المحكمة الدستورية)، أما الثاني فـ (إنشاء المحكمة الدستورية العليا في ليبيا) (نصوص المواد 1، 2، 5، 6، 7، 8، 21، 26، 28، 53 في الأول مختلفة عن نظائرها في الثاني.

وحيث إنه من المقرر فى قضاء هذه المحكمة أن المدعي هو الذي يحدد طلباته أمام القضاء، وأن له أن يقدّم من الطلبات ما يتضمن تصحيحاً للطلب الأصلي أو تعديلاً في موضوعه لمواجهة ظروف طرأت أو تبينت بعد رفع الدعوى.ولهذا فإن العبرة في تحديد ما يطلبه المدعي من المحكمة حماية للحق أو المركز القانوني الذي يستهدفه بدعواه إنما هي بطلباته الختامية وقت قفل باب المرافعة، لا بالطلبات التي تضمنتها صحيفة الدعوى وحيث إن المدعي أقام دعواه الماثلة طعناً في دستورية القانون الصادر عن مجلس النواب بإنشاء محكمة دستورية لما وقع فيه من مخالفة دستورية.وحيث إنه في تعريفه بهذا القانون وإثبات صدوره وتحقق نشره، قدم للمحكمة في جلسة 2023.5.31م نسخة من الجريدة الرسمية التي احتوته تحت اسم (القانون رقم 5 لسنة 2023م بإنشاء المحكمة الدستورية العليا في ليبيا)، مفصحاً عن طلباته الختامية في الدعوى، محدداً لها في طلب القضاء بعدم دستورية هذا القانون، فيما تمسك عضو إدارة القضايا الحاضر عن المطعون ضده بصفته بما كان قدمه من دفاع منتهياً إلى طلب حجز الدعوى للحكم.لذا فإن الدعوى في تكييفها الصحيح هي دعوى بعدم دستورية القانون رقم 5 لسنة 2023م، بإنشاء المحكمة الدستورية العليا في ليبيا، الصادر عن مجلس النواب في مدينة بنغازي، بتاريخ 7 رمضان 1444 هـ، الموافق 2023.3.23م، المنشور في الجريدة الرسمية لسنة 2023 العدد 5 السنة الأولى، ومن ثم فإنها لمن الدعاوى التي تستنهض ولاية هذه الدائرة بالمحكمة العليا للفصل فيها استناداً إلى نص المادة 23 من القانون رقم 6 لسنة 1982م بإعادة تنظيم المحكمة العليا، والتي تقضي باختصاص المحكمة العليا دون غيرها، منعقدة بدوائرها مجتمعة، بالفصل في الطعون التي يرفعها كل ذي مصلحة في أي تشريع يكون مخالفاً للدستور.

وحيث إنه ولئن كانت هذه الدائرة قد فصلت من قبلُ في موضوع دعوى بعدم دستورية القانون الصادر عن مجلس النواب بإنشاء محكمة دستورية، وذلك في الطعن الدستوري رقم 70/4 ق، إلا أن تغاير القانون موضوع الدعوى الماثلة عنه في تلك يجعل منهما دعويين متمايزتين تماماً، ويفرض عليها من ثم الولوج إلى الموضوع للفصل فيه.فالقانون الأول صادر في عام 2022م، فيما الثاني في عام 2023م، وبعد قضاء هذه المحكمة بعدم دستورية الأول.لا رقم للأول، ورقم الثاني 5 لسنة 2023م.موضوع الأول (إنشاء المحكمة الدستورية)، أما الثاني فـ (إنشاء المحكمة الدستورية العليا في ليبيا) (نصوص المواد 1، 2، 5، 6، 7، 8، 21، 26، 28، 53 في الأول مختلفة عن نظائرها في الثاني.

وحيث ينعى الطاعن على القانون المطعون بعدم دستوريته بمناع مجملها إنها تشكل خرقاً للمبدأ الدستوري الذي يضع المحكمة العليا على رأس السلطة القضائية في البلاد، وخالف ما يقضى به الإعلان الدستوري، وانطوى على إلغاء تسمية المحكمة العليا القائمة منذ سبعين عاماً، وأن إقرار قانون يتعلق بمحكمة دستورية يخرج عن ولاية السلطة التشريعية كونه شأناً دستورياً بامتياز، فلا يجوز إلا من خلال دستور صادر عن الشعب الليبي، وعليه فإن الاختصاص بإنشاء هذا النوع من المحاكم يكون منعقداً لهيئة صياغة مشروع الدستور.أضف إليه أن إصدار مثل هذا القانون يتطلب زمناً وقدراً من الاستقرار الذي تفتقد إليه البلاد في مرحلتها الراهنة.كما أن القانون صدر عن مجلس النواب دون توافق مع مجلس الدولة، مخالفاً بذلك (الاتفاق السياسي)، مما سيفضي إلى تعميق انقسام مؤسسات الدولة الذي نأت عنه الأسرة القضائية.

وحيث إن الدائرة الدستورية في استنباطها لمدلولات هذه المناعي، ودون التقيد بالألفاظ التي صيغت فيها، يبين لها أنها تتمحور حول النعي بعدم الاختصاص الولائي لمجلس النواب بإصدار القانون الطعين في المرحلة الراهنة، ولما فيه من تعديل في وظيفة المحكمة العليا رأس هرم السلطة القضائية الذي هو شأن دستوري ينعقد الاختصاص به للدستور الصادر عن الشعب لا لمجلس النواب.

وحيث إن هذا النعي في مجمله سديد.ذلك أن السلطة العامة ليست امتيازاً شخصياً لمن يتقلدها، يمارسها على هواه وخارج الحدود والقواعد التي تضبط عمل السلطات في الدولة.إنها وظيفة يباشرها نيابة عن الجماعة، مقوداً فيها بمصلحتها وقيمها وما فيه خيرها، وفي النطاق الذي رسمه القانون الذي أوجده.فإذا ما انحرفت سلطة عن ذلك، اضطرب الشأن العام على نحو تتأذى منه مصلحة الجماعة، ما يلزم معه ردُّها إلى دائرة المشروعية.وعلى هذا، فإنه وإن كان حق التشريع من الحقوق الأصيلة المنوطة بالسلطة التشريعية، إلا أن ذلك لا يعني بأي حال أن لها الحق في أن تهدر نصوص القانون الأسمى وتتجاوز حدود السلطات والصلاحيات المخولة لها بموجبه، أو أن تتعدى على اختصاصات غيرها من السلطات داخل الدولة وحيث إن الحكم المؤقت هو في الواقع والقانون حكم طارئ تُلجئ إليه حالة الفراغ السياسي المترتبة على أسباب استثنائية، ويدفع إليه ميل الأنفس نحو الصراع على السلطة، وهو ما يعني أن إطاره المؤسسي ليس غاية في حدّ ذاته، وإنما هو جسر تتحول عبره البلاد إلى النظام المنشود.ولهذا ما كانت الإعلانات الدستورية المؤقتة إلا استجابة لهذا الواقع.فهي، خلافاً للدساتير الدائمة للدول، ووفق ما استقر في الفقه والقضاء الدستوريين، تصدر عن سلطة الأمر الواقع في ظروف استثنائية تهدد كيان الدولة بالتقويض أو استقلالها بالمساس أو وحدثها بالتفتت والانقسام، وذلك بغرض مواجهة هذه المخاطر وحفظ البلاد من الانهيار.يستوي في ذلك أن يكون مصدر الخطر قوى داخلية أو خارجية.ولهذا فإن من بين ما تعمد الوثائق الدستورية المؤقتة في هذه المرحلة إليه هو تأطير أعمال المؤسسات التي تنيط بها السلطات الانتقالية، لا سيما التشريعية، بأحكام يراعى فيها توازن بين السلطة والحرية، وتستهدف إلى تحصين العملية الانتقالية من تعسفها، وذلك بفرضها جدولاً زمنياً للمرحلة ينتهي ببلوغ الهدف النهائي لها ؛ تفادياً لانحرافها بالسلطة أو تأييدها في يدها.

وعلى هذا، فإن للسلطة التشريعية في هذه المرحلة خصوصية شرعية وأخرى وظيفية وثالثة زمنية تمليها حالة الفراغ والأخطار التي تتربَّص عادةً بعملية الانتقال السياسي المعقدة.فوجودها مستمد، مباشرة أو بالواسطة، من شرعية فعلية مؤقتة، ما يجعل شرعيتها هي الأخرى مؤقتة، وهي، خلافاً للسلطة الدائمة، لا تمارس وظيفة عادية، وإنما هو دور محدود وظيفياً وزمنياً يقيد الحاجة في هذا الظرف الاستثنائي، تمكيناً لاستمرار الوظائف الأساسية للدولة، واستعادة للأمن والاستقرار، وتوفيراً للوقت والجهد للانكباب على متطلبات العملية الانتقالية تهيئة لنقل البلاد إلى الحالة الدائمة.

وحيث إن الإعلان الدستوري لعام 2011م الصادر عن المجلس الوطني الانتقالي المؤقت هو عماد البناء القانوني للدولة الليبية، وهو ما تستمد منه شرعيتها وهو بهذا المقام التشريع الأسمى والميزان الذي على گفته توزن دستورية القوانين.وحيث إن المحكمة العليا، بوصفها القوامة على الشرعية الدستورية، هي صاحبة القول الفصل في تفسير نصوصه وتحديد مضامينها وبيان مقاصد المشرع الدستوري منها في جملتها وفي تفاصيلها.وهي في مهمتها هذه، إنما تستنبط أحكامه وقواعده من أصولها التي تحملها نصوصه في لفظها وفي فحواها، منظوراً إليها في ضوء السياق التاريخي الذي أملاها، وباعتبارها وحدة ملتئمة لا تتجزأ، تباعدت مواضعها ام تقاربت، استكشافاً للروابط التي تجمعها، تقصياً للغاية التي ترمي إليها في إطار المصلحة الاجتماعية التي يتعيّن أن تدور في فلكها.وعليه، كان أمراً مقضياً أن ما تستظهره هذه المحكمة من نصوص الإعلان، وما تنبئ عنه من مراد واضعه والحكمة من ورائه، هو التفسير الصحيح الملزم، الذي لا تعقيب عليها من أحدٍ فيه، ولا خيار لولاة الأمر والأفراد غير التسليم به وتبنيه، فهي المحكمة التي لا تعلوها محكمة، إليها وحدها يعود هذا الأمر، وقولها فيه هو الفصل وعنوان الحقيقة والعدل.

وحيث إن هذه المحكمة في سبيل إنزالها حكم الإعلان الدستوري على موضوع تبادر الدعوى، بتفسيره تطلباً لمراد الشارع الدستوري منه، مستصحبةً ما تقدم من مبادئ وأحكام، فتقرر بأن هذا الإعلان بتعديلاته يشكل الأساس القانوني الأول للانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية القانونية.وقد نسجت نصوصه على نحو أريد به للمؤسسات المنشأة بموجبه أن تكون مؤقتة، غايتها التمهيد للتغيير الذي استهدفته الثورة، وبالضوابط التي تتناسب مع طبيعة المرحلة الاستثنائية.ففيما عدا ما تعلق بالحقوق والحريات الطبيعية والأساسية، والتي لجوهريتها لا تقبل الانتقاص ولو في ظرف استثنائي، جاءت نصوص الإعلان نابضة بالتأقيت، سواءً في ذلك المنشئة لمؤسسات الثورة والدولة، والمحدّدة لاختصاصاتها، كاشفةً بذلك عن أن هذه المؤسسات هي غير المؤسسات الدائمة، ولذا فإن وظيفتها ظرفيةً مرهونة بعنصرين: الزمن الذي أوجدت فيه، والحاجة التي ألجأت إليها.

وحيث إن هذا الضابط يحكم في المقام الأول الجسم التشريعي الناشئ.فكونه سائس المرحلة والحفيظ عليها، ودفعاً لانحرافه عن وظيفته الكبرى اللصيقة بها، وتمكيناً لاعتكافه عليها حتى يبلغ بالبلاد البر الذي يتحرك الشعب تطلعاً إليه، كان محتوماً أن تضع له نصوص الإعلان إطاراً زمنياً وآخر وظيفياً يحددان طبيعة دوره وينبئان عن حقيقته، تأمنُ بهما الأمة زيغه واستبداده، وتكفلان ما أمكن تيسير التحول وتسريعه.فعلاوة على ديباجته التي تؤقت المرحلة الانتقالية بالتصديق على الدستور الدائم في استفتاء شعبي عام، وعلى النصوص المحددة للجداول الزمنية لخطوات الانتقال إلى المرحلة النهائية، تدلل نصوص أخرى في لفظها أو فحواها على انحصار وظيفة التشريع الموكلة إليه ضمن دواعي المرحلة لا أكثر.فهذه المادة 35 تنأى بالسلطة التشريعية الناشئة عن أن تستفرغ طاقتها في شؤون لا تستلزمها المرحلة، وذلك بتبنيها مبدأ استمرار الدولة بعد الثورة بما نصت عليه من تواصل العمل بكل التشريعات القائمة ما دامت لا تتعارض مع مبادئ الثورة التي أودعت الإعلان، مكتفية بتعديلات إسمية فحسب.وتنضح نصوص أخرى في الإعلان (المواد 17 و 26 و 27 و 28 و 30) بما يجلي حقيقة أن المناط في وظائف هذه السلطة هو مقتضيات المرحلة فحسب.ولهذا حصر الإعلان كل الاختصاصات التشريعية المنوطة بها في طائفتين: تتعلق الأولى بإنفاذ التغيير والعمل على تحقيق أهداف المرحلة الانتقالية، المتمثلة في التأسيس لنظام ديمقراطي مبني على التعددية السياسية والحزبية بهدف التداول السلمي للسلطة، وذلك بدءاً بإصدار تشريع بتحديد معايير انتخاب الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، ثم إصدار الدستور وقانون الانتخابات العامة وفقاً له، وصولاً إلى إحلال السلطة التشريعية المؤقتة بانعقاد الجلسة الأولى لخليفتها الدائمة بموجب الدستور وأما الثانية فبالتشريع في شؤون يفرضها السير الطبيعي للحياة ولمرافق البلاد في هذه المرحلة الخاصة، من مثل ما حددته المادة 30 من اختصاص مجلس النواب بالتشريعات المنظمة لشؤون الإدارة المحلية والانتخابات العامة، وتلك المتعلقة بإقرار الموازنة العامة، وإعلان حالة الطوارئ ورفعها، وإعلان الحرب وإنهائها، والمصادقة على المعاهدات الدولية، بالإضافة إلى ما تشير إليه المادة ذاتها من التشريع في موضوعات أخرى، يُقصد بها، تقيداً بالأصل العام متقدم البيان المستلزم بظرف المرحلة الانتقالية وتأقيت الجسم التشريعي، القوانين الضامنة لحقوق ديمقراطية أساسية، والأخرى التي لا غنى عنها للسير الطبيعي لمرافق البلاد في هذه المرحلة.

لما كان ذلك، ومراعاة للطبيعة الاستثنائية للمرحلة الانتقالية، وعملاً بدلالات نصوص الإعلان الدستوري، واستهداء بسياقها التاريخي، وبالنظر إلى ما تستتبعه سمة الوقتية التي تطبع كيان السلطة التشريعية، أياً كان اسمها، من ضرورة تركيز اختصاصاتها، فإنه إلى أن تقوم الحياة الدستورية الاعتيادية بدستور دائم وبسلطة تشريعية منتخبة بموجبه، تظل المرحلة الانتقالية التي تعيشها البلاد قائمة، وتبقى كل المؤسسات الدستورية الناشئة أثناءها امتداداً لحكومة الثورة الفعلية المؤقتة حتى تبلغ بعملية التحول إلى مداها.وعليه، فإن كل الوظائف التي أناطها الإعلان بالسلطة التشريعية المؤقتة، متمثلة اليوم في مجلس النواب المؤقت، تظل مضيقةً بمتطلبات المرحلة، لا تتعداها إلى ما عداها التزاماً بالمسار الدستوري المحدد، وتحفيزاً للشعب والسلطات على الدفع بالعملية السياسية نحو منتهاها الموضح في الإعلان، وهو ما حاصله أنه ليس لهذا المجلس أن يمارس اختصاصاً تشريعياً في غير الموضوعات المنصوص عليها صراحة أو تلك التي تستلزمها حالة الانتقال بالبلاد إلى مرفأ الدولة المنشودة أو يدعو إليها التعجيل الرشيد في خطوات المرحلة، أو ما كان سداً لحاجة أساسية يفرضها السير الاعتيادي للحياة ومؤسسات الدولة.

فإذا ما زاغ عن حدود هذا التنظيم الدستوري، كان عمله مشوباً بعيب عدم الدستورية.

وحيث إنه متى كان ذلك، فإن هذه المحكمة وهي تفحص القانون المطعون في دستوريته، ترده بنصوصه إلى أحكام الإعلان الدستوري لتزنه بميزانه في ضوء ما تقدم من مدلولاته، تحرياً لسلامته الدستورية.وحيث إن هذا القانون هو القانون رقم 5 لسنة 2023م المشار إليه الصادر عن مجلس النواب المؤقت بتاريخ 2023.3.23م.وحيث إن موضوعه إنشاء محكمة دستورية عليا لها الاختصاص المانع بالتفسير الملزم لنصوص القوانين، وبالرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح الصادرة عن المجلس نفسه.وحيث إن هذه وظيفة ما انفكت تؤديه على أكمل وجهها وبأيدي نخبة من أهل العلم والخبرة في المجال، الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا، خاتمة المطاف القضائي، القائمة منذ سبعين عاماً وقفت خلالها ذائداً عن حوزة القانون الدستوري ضد تطاول السلطات، كابحة جماحها، كاشفةً عما انحرف من أعمالها، رادة لها إلى حظيرة المشروعية التي ترسم إطارها نصوصه والقيم التي يحتضنها، عاصمة بذلك الحقوق والحريات من أن تصادر أو أن ينتقص منها، منقية النصوص التشريعية من الخطايا الدستورية، فحافظت بموقفها طوال عهدها، الذي عاصر أنظمة سياسية متخالفة، على أن تبقى الشرعية الدستورية في مدارجها العليا.ولهذا، فإن إنشاء مجلس النواب المؤقت محكمة دستورية وتحويلها شطراً من الرقابة الدستورية بعد مصادرته الشطر الآخر، وذلك رغم قيام هذا الصرح الشامخ العريق وأدائه لهذه الرقابة كاملة بشطريها، لهو عمل لا الإعلان الدستوري يجيزه، ولا المرحلة الانتقالية تتطلبه، ولا ظروف البلاد الواقعية تمليه، ولا تسيير حياة الأفراد والمؤسسات في حاجة إليه.وهو لهذا لا يحقق مصلحة حالة ولا محتملة أثناء هذه الحقبة الزمنية الصعبة، ومن ثم فإنه قانون يندرج ضمن ما ينحسر عنه اختصاص المجلس المذكور في هذه المرحلة، ما يجعل إصداره له عملاً غير دستوري وبما يحيله إلى مجرد عمل مادي لا أثر له في القواعد القانونية النافذة.

وحيث إن هذا القانون يشكل، إضافة إلى ذلك، مساساً بالحق في التقاضي.الحق الأساسي الذي تفرض حمايته الشرعية الدستورية لا بما هو منصوص عليه في الإعلان الدستوري (المادتان 31 و 33) فحسب، بل وفضلاً عن ذلك بكونه حقاً طبيعياً ملازماً للإنسان منذ أن خلق، ومستمداً أصالة من أوامر العلي القدير، وهو ما يبوئه مكانة سامية ضمن قواعد النظام العام تفرض على المحكمة، وقد وقفت في أثناء نظرها للطعن على انتهاكه، أن تبسط عليه من تلقاء نفسها الحماية الدستورية الواجبة له.

لما كان ذلك، وحيث إن مصدر القانون موضوع الطعن لا يكتفي بسحب الاختصاص الدستوري من هذه المحكمة ليمنحه لتلك، بل يحيله إليها مبتوراً وقد صادر الأفراد حقهم في الرقابة الدستورية المباشرة على أعماله ليستبدل بها رقابة صورية جماعُها رقابة المجلس نفسه على نفسه، وذلك بما نص عليه من احتكار رئيسه وجملةٍ من النواب، دون الأفراد والهيئات الأخرى، لحق اختصام القوانين بدعاوى دستورية مباشرة.وهو قيد منه على حق اللجوء إلى القضاء الدستوري من شأنه أن يعصف بجوهره، فلا يكون جائزاً.وإذ اجترأ المجلس عليه بموجب القانون الطعين، فإن عمله يكون متردّياً في عيب عدم الدستورية من هذه الناحية أيضاً وبما يتعين معه إهداره.

 فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية القانون رقم 5 لسنة 2023 م بإنشاء المحكمة الدستورية في ليبيا الصادر في 2023.03.29م.