Skip to main content

جنسيتي من أمي: الكفاح من أجل حق المرأة الليبية في منح جنسيتها لأبنائها

يمثل هذا التقرير تحليلاً شاملاً وعميقاً للتمييز القانوني القائم على النوع الاجتماعي والمتجذر في قانون الجنسية الليبي، والذي يحرم المرأة الليبية من حقها الأساسي في منح جنسيتها لأبنائها على قدم المساواة مع الرجل. يكشف التقرير أن قانون الجنسية رقم 24 لسنة 2010، على الرغم من احتوائه على بنود توحي بإمكانية الإصلاح، فإنه في جوهره يكرّس بنية قانونية تمييزية من خلال التناقضات الداخلية والبنود التي تمنح السلطة التنفيذية صلاحيات تقديرية واسعة. هذا الوضع لا يصنف المرأة الليبية كمواطنة من الدرجة الثانية فحسب، بل يفرض على أبنائها واقعاً مريراً من الحرمان القانوني والاجتماعي والنفسي، ويهدد بتكوين جيل من الأفراد الذين يشعرون بالاغتراب عن وطن أمهاتهم.

يستعرض التقرير هذه الإشكالية من خلال تحليل متعدد الأبعاد. من منظور حقوقي، يوضح التقرير التناقض الصارخ بين القانون الليبي والتزامات ليبيا الدولية، لا سيما اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، التي تنص صراحة على المساواة في حقوق الجنسية. ومن منظور اجتماعي-ثقافي، يحلل التقرير الجذور العميقة للمقاومة ضد تعديل القانون، ويفكك الحجج الواهية المستخدمة لتبرير الوضع الراهن، سواء كانت ديموغرافية، أمنية، أو ثقافية. أما من المنظور النفسي، فيوثق التقرير المعاناة الإنسانية من خلال شهادات حية، كاشفاً عن “أزمة الهوية” والشعور بالرفض الذي يعيشه الأبناء، وعبء الذنب والعجز الذي تحمله الأمهات.

كما يقدم التقرير دراسة مقارنة لتجارب دول عربية مجاورة مثل تونس والمغرب ومصر، والتي نجحت بدرجات متفاوتة في إصلاح قوانينها، مما يثبت أن التغيير ممكن وقابل للتطبيق في سياقات ثقافية مشابهة. ويخلص التقرير إلى تقييم شامل للآثار المدمرة لهذا التمييز على الطفل والأسرة والمجتمع الليبي ككل، حيث يؤدي إلى إهدار طاقات بشرية هائلة وترسيخ ثقافة التمييز التي تقوض أسس بناء دولة ديمقراطية حديثة.

بناءً على هذا التحليل، يقدم التقرير مجموعة من التوصيات العملية والموجهة. فعلى الصعيد التشريعي، يدعو المشرعين الليبيين إلى تبني تعديل قانوني واضح لا لبس فيه يكفل المساواة الكاملة وغير المشروطة. وعلى صعيد المجتمع المدني، يقترح إطلاق حملات مناصرة وطنية موحدة لزيادة الوعي والضغط من أجل التغيير. وأخيراً، يحث التقرير المجتمع الدولي على ممارسة ضغط دبلوماسي متواصل على السلطات الليبية للوفاء بالتزاماتها الدولية وإنهاء هذا الشكل من التمييز المنهجي. إن تحقيق العدالة في هذا الملف ليس مجرد قضية حقوقية، بل هو ضرورة وطنية لبناء مستقبل ليبي قائم على المساواة والمواطنة الكاملة للجميع.

الجزء الأول: بنية التمييز: تفكيك قانون الجنسية الليبي

إن التمييز ضد المرأة في قانون الجنسية الليبي ليس مجرد ثغرة قانونية أو نتيجة لإغفال غير مقصود، بل هو بنية متكاملة ومتجذرة في التشريعات المتعاقبة، تتجلى بوضوح في القانون الحالي. هذا الجزء من التقرير مخصص لتفكيك هذه البنية، وكشف آلياتها، وتتبع جذورها التاريخية، وإظهار كيف أن محاولات الإصلاح الجزئية لم تكن سوى مسكنات تهدف إلى إدارة الأزمة بدلاً من حلها.

1.1 المتاهة القانونية: قانون رقم 24 لسنة 2010 وتناقضاته

يعتبر قانون الجنسية رقم 24 لسنة 2010 حجر الزاوية في المنظومة القانونية الحالية التي تحكم مسألة الجنسية في ليبيا. عند النظرة الأولى، قد يبدو القانون وكأنه يمثل خطوة إلى الأمام، لكن التحليل الدقيق لنصوصه يكشف عن تناقض جوهري مصمم للحفاظ على الوضع القائم الذي يميز ضد المرأة. يكمن هذا التناقض في التعارض المباشر بين مادتين أساسيتين: المادة 3 والمادة 11.

تنص المادة 3 من القانون على أن الجنسية الليبية تكتسب بشكل أساسي عن طريق رابطة الدم من جهة الأب (jus sanguinis). فهي تعرّف الليبي بأنه “كل من ولد لأب ليبي”.1 هذه المادة تمنح حقاً تلقائياً ومطلقاً للرجل الليبي في تمرير جنسيته لأبنائه، بغض النظر عن جنسية الأم أو مكان الولادة. هذا هو المسار الافتراضي والأصيل للحصول على الجنسية.

في المقابل، تأتي المادة 11 لتقدم ما يبدو أنه حل للنساء الليبيات المتزوجات من أجانب. تنص هذه المادة على أنه “يجوز” منح الجنسية الليبية لأولاد المواطنات الليبيات المتزوجات من غير الليبيين.1 الكلمة المفتاحية هنا هي “يجوز”، وهي كلمة تفتح الباب على مصراعيه للسلطة التقديرية للدولة. فالحق هنا ليس تلقائياً أو مطلقاً كما هو الحال بالنسبة للرجل في المادة 3، بل هو حق جوازي ومشروط، يخضع لموافقة السلطات التنفيذية التي لم تصدر حتى الآن اللوائح التنفيذية اللازمة لتوضيح إجراءات تطبيقه بشكل يضمن المساواة.1 وقد أكد العديد من الخبراء القانونيين والناشطين أن هذه الصياغة تجعل حق المرأة في منح جنسيتها “جوازياً أو تقديرياً”، مما يترك مصير آلاف الأسر معلقاً برغبة الإدارة وأهواء السياسة.5

هذا التناقض ليس عيباً تشريعياً عفوياً، بل هو نتاج عملية تشريعية يمكن وصفها بأنها “إصلاح أدائي” أو شكلي. ففي أعقاب ثورة 2011، وجدت ليبيا نفسها تحت مجهر المجتمع الدولي، وكان من الصعب سياسياً الدفاع عن قانون ينكر تماماً حق المرأة. في الوقت نفسه، كانت أي محاولة لمنح مساواة كاملة ستواجه مقاومة شرسة من القوى المحافظة داخل البلاد. وعليه، كان الحل السياسي الأكثر ملاءمة هو صياغة قانون يبدو تقدمياً من خلال تضمين المادة 11، ولكنه في الوقت ذاته يحافظ على الهيمنة الذكورية من خلال إبقاء المادة 3 كأساس، واستخدام كلمة “يجوز” كآلية للتحكم والسيطرة. لقد خلقت هذه الهندسة التشريعية واجهة من التقدم يمكن التلويح بها دولياً، بينما في الداخل، يضمن غياب اللوائح التنفيذية الواضحة وغير التقديرية بقاء الوضع على ما هو عليه، مما يجعل القانون أداة للحفاظ على التمييز تحت ستار الإصلاح.

1.2 إرث من عدم المساواة: السوابق التاريخية في القانون الليبي

إن التمييز الحالي ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لإرث قانوني طويل كرس النظرة الدونية للمرأة في مسائل الجنسية. فتتبع التشريعات السابقة يكشف أن الدولة الليبية، منذ تأسيسها، نظرت إلى الجنسية من منظور ذكوري وأمني، حيث كان دور المرأة في منح المواطنة ثانوياً وخاضعاً لسيطرة الرجل والدولة.

ففي قانون الجنسية رقم 17 لسنة 1954، وهو أول قانون شامل للجنسية بعد الاستقلال، كانت بذور التمييز واضحة. على الرغم من أن القانون تضمن أحكاماً تسمح لأبناء الليبيات بالحصول على الجنسية، إلا أن هذه الأحكام كانت مشروطة وتندرج ضمن إطار “التجنس” وليس كحق أصيل ينتقل بالدم من الأم.6 كان على أبناء الليبية استيفاء شروط معينة، مثل الإقامة في ليبيا، وتقديم طلب يخضع لموافقة السلطات، مما يؤكد أن جنسيتهم لم تكن حقاً مكتسباً بالولادة.

كما أن التعديلات اللاحقة، مثل قانون رقم 7 لسنة 1963، لم تعالج هذا الخلل الجوهري. وبدلاً من ذلك، ركزت على تعزيز الجوانب الأمنية والسياسية للجنسية، مثل إضافة أحكام تسمح بسحب الجنسية لأسباب سياسية كـ “الاتصاف بالصهيونية”.9 هذا التركيز الأمني صرف الانتباه عن قضية المساواة بين الجنسين وأكد أن نظرة الدولة للجنسية كانت تتمحور حول الولاء والهوية السياسية التي يحددها الرجل، وليس حول رابطة المواطنة التي يمكن أن تنقلها المرأة. هذا الإرث التاريخي يوضح أن قانون 2010 لم يكن انحرافاً عن المسار، بل استمراراً لنهج راسخ في الفكر القانوني والسياسي الليبي.

1.3 وعود دستورية ومراوحة سياسية

بعد عام 2011، كانت هناك فرصة تاريخية لترسيخ مبدأ المساواة في الوثائق القانونية التأسيسية للدولة، لكن هذه الفرصة أُهدرت إلى حد كبير بسبب المراوحة السياسية والانقسامات.

ينص الإعلان الدستوري المؤقت الصادر عام 2011 في مادته السادسة على أن “الليبيين سواء أمام القانون، ومتساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، وفي تكافؤ الفرص، وفيما عليهم من الواجبات والمسؤوليات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين أو المذهب أو اللغة أو الثروة أو الجنس…”.11 هذا النص الواضح يجعل استمرار العمل بقانون الجنسية التمييزي انتهاكاً مباشراً ومستمراً لأعلى وثيقة قانونية في البلاد. ومع ذلك، لم يتم الطعن في دستورية القانون أو تعديله ليتوافق مع هذا المبدأ الأساسي.

أما مسودة دستور 2016، فتمثل مثالاً صارخاً على الفرص الضائعة. فبينما تضمنت المسودة أحكاماً تشير إلى منح الجنسية لأبناء الليبيات، إلا أنها قيدت هذا الحق بـ “شروط تفضيلية” يحددها القانون، وربطت المسألة بشكل مثير للقلق باعتبارات “المحافظة على التركيبة السكانية”.13 هذه الصياغة تبتعد كل البعد عن ضمان حق متساوٍ وغير مشروط، وتفتح الباب مرة أخرى أمام التشريعات التمييزية التي يمكن تبريرها بمخاوف ديموغرافية أو سياسية.

ومما يزيد من وضوح هذا التناقض هو النقاش الدائر حول ازدواج الجنسية للمترشحين للمناصب السيادية. فقد أظهرت النقاشات حول قوانين الانتخابات استعداد النخبة السياسية لإبداء مرونة كبيرة في مسألة الجنسية عندما يتعلق الأمر بمصالحها الخاصة، حيث سمحت بعض المقترحات للمترشحين للرئاسة بالاحتفاظ بجنسية أجنبية.14 هذه الازدواجية في المعايير تكشف عن نفاق سياسي عميق: فالجنسية تصبح مسألة مرنة وقابلة للتفاوض لتحقيق مكاسب سياسية، لكنها تتحول إلى خط أحمر ومسألة سيادية لا يمكن المساس بها عندما يتعلق الأمر بالحقوق الأساسية للمرأة.

1.4 حقوق بلا مواطنة: محدودية المراسيم المسكنة

في مواجهة الضغط المتزايد من قبل منظمات المجتمع المدني والمعاناة الإنسانية الواضحة للأسر المتضررة، لجأت الحكومات الليبية المتعاقبة إلى إصدار مراسيم وقرارات تهدف إلى تخفيف حدة المشكلة دون معالجة جوهرها. أبرز هذه المحاولات هو قرار مجلس الوزراء رقم 902 لسنة 2022، الذي نص على تمتع أبناء المواطنات الليبيات المتزوجات من غير الليبيين بالحقوق التي يتمتع بها المواطنون، مثل مجانية العلاج والتعليم.16

ورغم أن هذا القرار قد يبدو خطوة إيجابية، إلا أنه قوبل بانتقادات حادة من قبل الناشطين والمحللين الذين وصفوه بأنه مجرد “مسكن” أو “دعاية سياسية”.18 فهذه المراسيم تعالج بعض أعراض المشكلة (الحرمان من الخدمات الأساسية) ولكنها تتجاهل المرض الأساسي (الحرمان من المواطنة). إنها محاولة لاستبدال الحقوق بالمنح، والمواطنة بالرعاية.

هذا النهج يمثل تحولاً استراتيجياً من قبل الدولة من الإنكار الصريح للمشكلة إلى ممارسة “الأبوية الخيرة”. فمن خلال منح الحقوق الاجتماعية، تحاول الدولة إعادة تأطير القضية من كونها قضية حقوق أساسية ومساواة، إلى قضية رعاية اجتماعية وخدمات تقدمها الدولة من باب الكرم. هذا التحول له تأثيران خطيران: أولاً، يمكن أن يؤدي إلى إضعاف حركات المناصرة من خلال تلبية بعض المطالب العملية الأكثر إلحاحاً، مما يقلل من زخم المطالبة بالإصلاح الجذري. ثانياً، وهو الأخطر، أنه يرسخ فكرة أن هؤلاء الأبناء هم “ضيوف” أو “مقيمون مكرمون” يتلقون المزايا بفضل عطف الدولة، وليسوا “مواطنين” يتمتعون بحقوق أصيلة لا يمكن المساس بها. وبهذه الطريقة، يتم إنشاء فئة جديدة ودائمة من “غير المواطنين المتميزين”، مما يجعل استبعادهم من النسيج السياسي والوطني أمراً طبيعياً، مع الحفاظ على مظهر الدولة الرحيمة.

الجزء الثاني: تحليل متعدد الأبعاد لظلم مستمر

لفهم عمق قضية حرمان المرأة الليبية من حقها في منح الجنسية، لا يكفي النظر إلى النصوص القانونية وحدها. بل يجب الغوص في الأبعاد المختلفة التي تشكل هذه المشكلة وتغذي استمرارها. هذا الجزء يقدم تحليلاً متكاملاً من منظور حقوق الإنسان، والسياق الاجتماعي والثقافي، والتأثير النفسي، بالإضافة إلى مقارنة الوضع في ليبيا بتجارب دول أخرى في المنطقة.

2.1 العجز الحقوقي: تصادم ليبيا مع القانون الدولي

يقف قانون الجنسية الليبي في حالة تصادم مباشر وصريح مع منظومة حقوق الإنسان الدولية التي التزمت بها ليبيا. هذا التناقض ليس مجرد اختلاف في التفسير، بل هو فجوة عميقة بين التزامات الدولة على الساحة الدولية وممارساتها على الصعيد المحلي.

اتفاقية سيداو (CEDAW): جوهر هذا التصادم يكمن في مخالفة ليبيا الصريحة للمادة 9 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو). تنص هذه المادة بوضوح على أن الدول الأطراف “تمنح المرأة حقوقاً مساوية لحقوق الرجل فيما يتعلق بجنسية أطفالهما”.1 انضمت ليبيا إلى هذه الاتفاقية في عام 1989 20، مما يجعل هذا الالتزام ملزماً لها قانوناً.

تحفظات ليبيا: ومع ذلك، استخدمت ليبيا أداة التحفظات لتقويض جوهر الاتفاقية. فقد قدمت تحفظاً عاماً ينص على أن الانضمام إلى الاتفاقية لا يمكن أن يتعارض مع قوانين الأحوال الشخصية المستمدة من الشريعة الإسلامية.11 هذا التحفظ الواسع والمبهم هو الدرع القانوني الذي تتترس خلفه الدولة لتبرير عدم امتثالها. وقد أكدت هيئة الخبراء المعنية بمراقبة تنفيذ الاتفاقية في الأمم المتحدة أن مثل هذه التحفظات العامة تتعارض مع موضوع الاتفاقية والغرض منها، وبالتالي فهي غير جائزة.1 ومما يزيد الطين بلة، قرار الحكومة الليبية في عام 2022 بتوقيف العمل مؤقتاً بمذكرة التفاهم مع الأمم المتحدة حول “سيداو”، مما يظهر عداءً سياسياً واضحاً تجاه الالتزام بمبدأ المساواة.22

انعدام الجنسية وحقوق الطفل: يمتد هذا العجز الحقوقي إلى انتهاك اتفاقيات أخرى. فمن خلال خلق وضع يكون فيه أطفال الليبيات معرضين لخطر انعدام الجنسية في حال لم يتمكن الأب الأجنبي من منحهم جنسيته، تنتهك ليبيا التزاماتها بموجب اتفاقية خفض حالات انعدام الجنسية 23 و

اتفاقية حقوق الطفل.24 فهذه الاتفاقيات تلزم الدول بمنع حالات انعدام الجنسية وضمان حق كل طفل في الحصول على جنسية.24

إن تعامل ليبيا مع القانون الدولي لحقوق الإنسان يمكن وصفه بأنه “حوار الطرشان”. فالدولة تصادق على المعاهدات لكسب الشرعية الدولية، لكنها في الوقت نفسه تستخدم تحفظات شاملة وغير مقبولة لتفريغ هذه المعاهدات من محتواها، خاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة. هذا يخلق واقعاً قانونياً مزدوجاً: واقع للاستهلاك الدولي، وآخر للتطبيق المحلي. إن فشل المجتمع الدولي في تحدي هذه التحفظات بشكل فعال يسمح لهذه الازدواجية بالاستمرار، مما يجعل القانون الدولي مجرد نمر من ورق في السياق الليبي. هذه ليست مجرد مسألة خلاف قانوني، بل هي استراتيجية سياسية تهدف إلى تحييد القوة التحويلية للقانون الدولي للحفاظ على البنى الذكورية المحلية.

2.2 الركيزة الاجتماعية والثقافية للمقاومة

إن مقاومة إصلاح قانون الجنسية لا تنبع فقط من اعتبارات قانونية، بل تتغذى من ركيزة عميقة من المعتقدات الاجتماعية والحجج السياسية التي تشكل جداراً أيديولوجياً منيعاً.

2.2.1 سياسات الأبوية والقبلية

في جوهر المقاومة تكمن نظرة أبوية متجذرة تعتبر أن النسب يمر حصراً عبر خط الذكر. هذا المفهوم ليس مجرد تقليد اجتماعي، بل هو أساس لتوزيع السلطة والثروة في العديد من المجتمعات القبلية. فالمرأة التي تتزوج من أجنبي يُنظر إليها على أنها خرجت من دائرة الحماية القبلية، ويصبح أبناؤها، الذين يحملون اسم ودم الأب الأجنبي، غرباء عن القبيلة. هذا الخوف يتجاوز الرمزية إلى المادية، حيث يوجد قلق حقيقي من أن منح الجنسية لهؤلاء الأبناء قد يؤدي إلى تفتيت ملكية الأراضي والممتلكات القبلية وانتقالها إلى “أجانب”.18

2.2.2 خطاب الخوف: تفكيك الحجج الأمنية والديموغرافية

لإضفاء الشرعية على هذا الموقف الأبوي، يتم توظيف خطاب قائم على الخوف، يستخدم حججاً تبدو حديثة ومنطقية، ولكنها في الحقيقة تخفي تحيزات عميقة.

  • التهديد الأمني: الحجة الأكثر شيوعاً هي أن أبناء الآباء الأجانب يشكلون خطراً على الأمن القومي، حيث يمكن أن يصبحوا “طابوراً خامساً” أو أن يكون آباؤهم جواسيس.17 هذه الحجة تتجاهل حقيقة أن الولاء للوطن لا يحدده جواز سفر الأب، وأن القوانين الحالية المتعلقة بالخيانة والتجسس كافية للتعامل مع أي تهديد حقيقي، بغض النظر عن جنسية مرتكبه.2
  • التغيير الديموغرافي: هناك خوف متكرر من أن يؤدي تعديل القانون إلى “تغيير ديموغرافي” في ليبيا، خاصة في المناطق الجنوبية.28 هذه الحجة غالباً ما تكون تعبيراً مشفراً عن تحيزات عرقية أو إثنية، وهي تفتقر إلى أي أساس إحصائي. فالتقديرات تشير إلى أن عدد النساء الليبيات المتزوجات من أجانب يبلغ حوالي 15 ألف امرأة 18، وهو عدد لا يمكن أن يحدث تغييراً ديموغرافياً ذا شأن في بلد يتجاوز عدد سكانه 6 ملايين نسمة.
  • استغلال المرأة: الحجة الأبوية الأخرى هي أن القانون الحالي يحمي المرأة الليبية من استغلال الرجال الأجانب الذين يسعون للحصول على الجنسية من خلال الزواج بها.29 هذه الحجة لا تهين المرأة فقط من خلال إنكار قدرتها على اتخاذ قراراتها الخاصة، بل تفترض أيضاً سوء النية في كل زواج مختلط.

2.2.3 دور الخطاب الديني

يلعب الخطاب الديني دوراً محورياً في إضفاء الشرعية على هذا التمييز. فقد أصدرت دار الإفتاء الليبية فتاوى تدعو إلى منع زواج الليبيات من غير المسلمين، وتم استخدام هذه الفتاوى لتبرير تقاعس الدولة عن تعديل القانون.18 وفي تطور أحدث وأكثر خطورة، أصدرت دار الإفتاء فتوى في عام 2023 تحرم استخدام مصطلح “النوع الاجتماعي” (الجندر)، معتبرة أنه يروج لأفكار “تخالف الفطرة الإنسانية وأحكام الشريعة الإسلامية القطعية”.31 هذا يدل على تصلب المواقف المحافظة واستعدادها لاستخدام السلطة الدينية لمقاومة أي تقدم في مجال حقوق المرأة.

إن هذه الحجج ليست منفصلة، بل هي جزء من تحالف قوي يجمع بين المصالح الأبوية والقبلية والأمنية والدينية. فالهاجس الأمني يوفر غطاءً عصرياً للمخاوف القبلية القديمة المتعلقة بالنقاء والنسب. والخطاب الديني يمنح تفويضاً إلهياً للسيطرة الذكورية. هذا التحالف يخلق جداراً أيديولوجياً صلباً يصعب على الحجج الحقوقية والمنطقية اختراقه. إن حالة عدم الاستقرار في ليبيا ليست هي سبب فشل الإصلاح، بل هي الذريعة التي تسمح لهذه القوى الكامنة بالإبقاء على هيمنتها.

2.3 الثمن النفسي: روايات الاغتراب وأزمة الهوية

خلف النقاشات القانونية والسياسية، تكمن معاناة إنسانية عميقة يعيشها آلاف الأطفال والأمهات يومياً. هذا الجزء يهدف إلى إعطاء صوت لهذه المعاناة، وتوثيق الأثر النفسي المدمر لقانون الجنسية.

2.3.1 “غريب في وطني الأم”: تجربة الطفل

يعيش أبناء الليبيات المتزوجات من أجانب في حالة من الانفصام في الهوية. فهم يولدون ويكبرون في ليبيا، يتحدثون لهجتها، ويشربون من ثقافتها، ويعتبرون أنفسهم ليبيين بكل ما للكلمة من معنى.32 لكن القانون يصر على تذكيرهم في كل مناسبة بأنهم “أجانب”. هذه التجربة تخلق أزمة هوية عميقة وشعوراً بالرفض من الوطن الأم.

توثق الشهادات تعرض هؤلاء الأطفال للتنمر في المدارس، والتهميش الاجتماعي، والشعور الدائم بأنهم غرباء ومنبوذون.17 يقول أحد الشباب: “تسأل أي ابن مواطنة ليبية، تجده يعيش حياة الليبيين… ولاءه لليبيا”.33 ومع ذلك، فإن هذا الولاء لا يجد صدى في الأوراق الرسمية. هذا الشعور بالرفض يولد ضغطاً نفسياً هائلاً، وقد يؤدي إلى العزلة واليأس.34

2.3.2 عبء الأم: الذنب والعجز والوصم

بالنسبة للأمهات، فإن المعاناة متعددة الأوجه. فهن يحملن عبئاً نفسياً هائلاً يتمثل في الشعور بالذنب لأنهن، باختيارهن الزوج، “حكمن” على أبنائهن بحياة من التمييز.32 تتحدث إحدى الأمهات، حميدة، عن ندمها وتمنيها لو أنها لم تتزوج من غير ليبي، وتشعر بالمسؤولية عن الظلم الذي يواجهه أبناؤها.32

يضاف إلى هذا الشعور بالذنب، الإحساس بالعجز أمام بيروقراطية الدولة الصماء، والوصم الاجتماعي الذي يلاحقهن. فبعض أفراد المجتمع ينظرون إليهن نظرة دونية، ويتهمونهن بأنهن تزوجن من أجل المصلحة.4 وتأتي الإجراءات الإدارية لتزيد من هذا الشعور، فوضع علامة (F) على أرقامهن الوطنية كإشارة إلى زواجهن من أجنبي هو تذكير يومي بوضعهن كمواطنات منقوصات الحقوق.32

إن هذا القانون لا يمارس تمييزاً قانونياً فحسب، بل يمارس شكلاً من أشكال “الابتزاز العاطفي الإداري” (Administrative Gaslighting). فهو ينكر الواقع المعاش لهذه الأسر، ويخبرهم بأنهم ليسوا ليبيين حقيقيين بينما هم يعيشون حياة ليبية بالكامل. هذا التناقض المستمر بين الواقع المعاش والوضع القانوني هو مصدر للتوتر والصدمات النفسية المزمنة. إنه شكل من أشكال العنف الهيكلي، حيث تصبح أجهزة الدولة نفسها أداة للأذى، وتقوض بشكل منهجي الصحة النفسية والشعور بالذات لمواطناتها وأبنائهن.

2.4 طريق الإصلاح: تحليل مقارن إقليمي

على الرغم من صعوبة الوضع في ليبيا، فإن تجارب الدول المجاورة تقدم بصيص أمل وتوفر خارطة طريق عملية للإصلاح. هذه التجارب تثبت أن التغيير ليس مستحيلاً، وأنه يمكن تحقيقه ضمن سياقات ثقافية ودينية مشابهة، مما يفند حجة “الخصوصية الثقافية” التي غالباً ما تستخدم لعرقلة التقدم.

  • تونس: تمثل التجربة التونسية النموذج الأكثر تقدماً وكمالاً في المنطقة. ففي عام 2010، تم تعديل المادة 6 من مجلة الجنسية لتنص بوضوح على أن: “يكون تونسياً الطفل الذي ولد لأب تونسي أو لأم تونسية”.38 هذا التعديل البسيط في الصياغة أحدث ثورة في الحقوق، حيث أزال كل أشكال التمييز وأرسى مبدأ المساواة الكاملة وغير المشروطة بين الرجل والمرأة في حق منح الجنسية.39
  • المغرب: خطا المغرب خطوة كبيرة في عام 2007 عندما أقر تعديلاً على قانون الجنسية يمنح المرأة المغربية الحق في نقل جنسيتها لأبنائها.42 وعلى الرغم من أن هذا الإصلاح كان خطوة تاريخية، إلا أن النقاش مستمر حالياً حول الخطوة التالية، وهي منح الزوج الأجنبي للمرأة المغربية الحق في الحصول على الجنسية، على غرار ما هو متاح للزوجة الأجنبية للرجل المغربي.46
  • مصر: قامت مصر بإصلاح قانون الجنسية في عام 2004، وتبعه تعديلات لاحقة، لمنح الأم المصرية الحق في تمرير جنسيتها لأبنائها. ومع ذلك، لا يزال القانون المصري يحتفظ بالتمييز ضد الأزواج الأجانب، حيث لا يمنحهم الحق في الحصول على الجنسية المصرية عن طريق الزواج.47

هذه التجارب تقدم دروساً قيمة لليبيا. فهي تظهر أن الدول العربية والإسلامية قادرة على مواءمة تشريعاتها مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وأن المخاوف الأمنية والديموغرافية التي أثيرت في تلك البلدان قبل الإصلاح لم تتحقق على أرض الواقع.

جدول 2.4.1: تحليل مقارن لإصلاحات قانون الجنسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

الدولةسنة الإصلاح الرئيسيطبيعة الإصلاححقوق الزوج/ة الأجنبي/ةالعقبات المتبقيةالدروس المستفادة لليبيا
تونس2010مساواة كاملة وتلقائية للأملا يزال التمييز قائماً ضد الزوج الأجنبي 51تحقيق المساواة الكاملة في حقوق الزوج الأجنبي.إمكانية تحقيق المساواة الكاملة والفورية من خلال تعديل تشريعي بسيط وواضح.
المغرب2007مساواة في منح الجنسية للأبناءلا يزال التمييز قائماً ضد الزوج الأجنبي 46نقاش مستمر حول حقوق الزوج الأجنبي.الإصلاح ممكن ومقبول اجتماعياً، ويمكن أن يكون تدريجياً، بدءاً بحقوق الأبناء.
مصر2004مساواة في منح الجنسية للأبناءتمييز صريح ضد الزوج الأجنبي 50عدم المساواة في حقوق الزوج الأجنبي.يمكن تحقيق إصلاح كبير حتى مع وجود مقاومة، ولكن يجب السعي لتجنب الحلول الجزئية.
ليبيا2010 (قانون)حق تقديري ومشروط للأمتمييز صريح ضد الزوج الأجنبي 2غياب الحق التلقائي، التمييز القانوني، عدم وجود لوائح تنفيذية.الحاجة إلى تجاوز “الإصلاح الشكلي” وتبني تغيير حقيقي وجوهري يضمن المساواة.

هذا الجدول يوضح بجلاء أن ليبيا متخلفة عن ركب جيرانها في هذا المجال. فهو يقدم دليلاً ملموساً يفند حجة “الاستحالة الثقافية”، ويظهر أن ما ينقص ليبيا ليس نموذجاً للإصلاح، بل الإرادة السياسية لتطبيقه.

الجزء الثالث: الأثر المتتالي: تقييم تداعيات القانون على المجتمع الليبي

إن حرمان المرأة من حقها في منح الجنسية ليس مجرد مسألة قانونية مجردة، بل هو قرار له تداعيات مدمرة تمتد كالأمواج لتؤثر على حياة الطفل، وكرامة الأم، وسلامة النسيج الاجتماعي الليبي بأكمله. هذا الجزء يقيم بشكل منهجي هذه الآثار السلبية المتتالية.

3.1 الطفل: حياة في مهب الريح

يعيش الطفل المولود لأم ليبية وأب أجنبي في حالة من عدم اليقين القانوني والاجتماعي، حيث يجد نفسه محروماً من أبسط الحقوق التي يتمتع بها أقرانه.

  • الحرمان من الهوية والأمان: إن أول وأخطر أثر هو الحرمان من الهوية القانونية. فبدون رقم وطني أو جواز سفر ليبي، يعيش الطفل في وضع قانوني هش، كأنه “شبح” في نظر الدولة.18 هذا الحرمان يجعله عرضة للمضايقات الأمنية ويقيد حريته في التنقل داخل بلده، حيث يعامل كأجنبي عند نقاط التفتيش، مما يولد شعوراً بالذل والإهانة.32
  • عقبات أمام التعليم والرعاية الصحية: على الرغم من أن قرار 902 لسنة 2022 منح هؤلاء الأطفال حق الوصول المجاني إلى التعليم والرعاية الصحية 16، إلا أن هذا الحق لم يكن مكفولاً في السابق، ولا يزال مرتبطاً بقرار حكومي يمكن إلغاؤه، وليس بحق المواطنة الأصيل. قبل هذا القرار، كانت الأسر تتحمل رسوماً دراسية باهظة تصل إلى 2000 دينار ليبي سنوياً للطفل الواحد، مما شكل عبئاً مالياً كبيراً وحرم الكثيرين من حقهم في التعليم.52
  • الإقصاء الاقتصادي: عندما يكبر هذا الطفل، يجد أبواب المستقبل موصدة أمامه. فهو محروم من الوظائف الحكومية، ويواجه صعوبات جمة في الحصول على عمل في القطاع الخاص الرسمي.18 كما أنه ممنوع من تملك العقارات، مما يحرمه من الاستقرار الاقتصادي وبناء مستقبل آمن.32
  • الحرمان من الميراث: في واحدة من أقسى صور الظلم، قد يُحرم الأبناء من ميراث والدتهم. ففي حالة وفاتها، يمكن أن تذهب ممتلكاتها إلى أقاربها الذكور بدلاً من أبنائها، بحجة أنهم “أجانب” لا يرثون من مواطنة ليبية.19
  • خطر انعدام الجنسية: الخطر الأكبر الذي يتهدد هؤلاء الأطفال هو انعدام الجنسية. فإذا كان الأب عديم الجنسية، أو مجهولاً، أو من بلد لديه قوانين تمييزية تمنعه من منح جنسيته لأبنائه المولودين في الخارج، فإن الطفل يجد نفسه بلا أي جنسية على الإطلاق، وهو ما يعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي.24

3.2 الأم: مواطنة منقوصة الكرامة

لا تقتصر آثار القانون على الطفل، بل تمتد لتطال الأم الليبية نفسها، فتنتقص من مواطنتها وتفرض عليها أعباءً نفسية ومادية هائلة.

  • مواطنة منقوصة: يعاملها القانون كمواطنة غير كاملة، غير قادرة على نقل أهم سمة من سمات هويتها الوطنية لأبنائها. هذا التمييز يرسل رسالة واضحة بأنها، كامرأة، أقل شأناً من الرجل في تعريف الانتماء للوطن.
  • الوصم البيروقراطي: إن وضع علامة (F) على رقم قيدها في السجلات الرسمية، واستبعادها من المنظومات الإلكترونية الحكومية للحصول على المنح أو حتى اللقاحات، هو شكل من أشكال العقاب الإداري المستمر على اختيارها لشريك حياتها.4 هذا الإجراء يحولها إلى مواطنة “موسومة”، ويعزلها عن بقية المجتمع.
  • العبء العاطفي والمادي: تتحمل الأم العبء الكامل لمعاناة أطفالها. فهي تعيش تحت وطأة الشعور بالذنب تجاه مصيرهم، والعجز في مواجهة القانون، بالإضافة إلى العبء المادي، حيث غالباً ما يكون الزوج الأجنبي غير قادر على إيجاد عمل مستقر بسبب وضعه القانوني، مما يلقي بمسؤولية إعالة الأسرة بأكملها على عاتقها.32

3.3 الوطن: مجتمع منقسم ومستنزف

على المستوى الوطني، يمثل هذا القانون جرحاً غائراً في جسد المجتمع الليبي، ويقوض جهود بناء دولة حديثة ومستقرة.

  • ترسيخ ثقافة التمييز: إن وجود قانون يميز بشكل صريح ضد نصف المجتمع (النساء) يرسخ ثقافة التمييز ويجعلها أمراً طبيعياً ومقبولاً. هذا الأمر لا يقتصر على قضية الجنسية، بل يمتد ليؤثر سلباً على جميع الجهود الرامية إلى تحقيق المساواة بين الجنسين في كافة المجالات، ويقوض فكرة بناء دولة ديمقراطية قائمة على احترام حقوق الإنسان.26
  • إهدار رأس المال البشري: يحرم القانون ليبيا من طاقات آلاف الشباب والشابات الذين ولدوا وترعرعوا على أرضها، ويحملون ثقافتها وولاءها. هؤلاء الأفراد، الذين كان يمكن أن يكونوا أطباء ومهندسين ومعلمين يساهمون في إعادة بناء بلدهم، يجدون أنفسهم مهمشين وغير قادرين على المشاركة بفعالية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.32
  • تهديد التماسك الاجتماعي: من خلال خلق فئة مهمشة ومستبعدة قانونياً، يزرع القانون بذور الغضب والاستياء في المجتمع. في دولة هشة مثل ليبيا، يمكن أن تتحول هذه المظالم إلى مصدر لعدم الاستقرار والصراع الاجتماعي في المستقبل.54 إن بناء هوية وطنية جامعة يتطلب الشمول والاحتواء، لا الإقصاء والتمييز.

الجزء الرابع: خارطة طريق نحو المساواة: حلول وتوصيات

إن تشخيص المشكلة وتحليل أبعادها لا يكفيان، بل يجب تقديم رؤية واضحة ومسار عملي لتحقيق التغيير. هذا الجزء يقدم مجموعة من التوصيات الموجهة والعملية للجهات الفاعلة الرئيسية في ليبيا وعلى الساحة الدولية، بهدف الانتقال من واقع التمييز إلى مستقبل قائم على المساواة الكاملة.

4.1 للمشرعين الليبيين: دعوة لعمل تشريعي لا لبس فيه

تقع المسؤولية الأساسية في إنهاء هذا التمييز على عاتق السلطة التشريعية في ليبيا. ويتطلب ذلك إرادة سياسية حقيقية تترجم إلى إجراءات تشريعية واضحة وحاسمة.

  • التوصية الأساسية: صياغة وإقرار تعديل واضح لقانون الجنسية رقم 24 لسنة 2010. يجب أن يتمحور هذا التعديل حول استبدال النصوص الحالية للمادتين 3 و 11 بمادة واحدة لا لبس فيها، على غرار النموذج التونسي الناجح، تنص على ما يلي: “يكون ليبياً كل من ولد لأب ليبي أو لأم ليبية”. هذه الصياغة تزيل كل أشكال السلطة التقديرية وتؤسس لحق متساوٍ ومطلق وغير مشروط.
  • التوصيات الداعمة:
  • الإلغاء الصريح لجميع المواد المتناقضة واللوائح التنفيذية المقيدة التي تفرغ القانون من محتواه.1
  • ضمان أن يكون للقانون أثر رجعي لإنهاء معاناة الأجيال التي ولدت قبل إقراره، وتصحيح أوضاعهم القانونية بشكل فوري.
  • البدء في دراسة تعديل القانون لمنح الأزواج الأجانب للمرأة الليبية مساراً واضحاً للحصول على الجنسية، أسوة بما هو متاح للزوجات الأجنبيات، والاستفادة من النقاش الدائر في المغرب كنموذج.46
  • ترسيخ مبدأ المساواة الكاملة في حقوق الجنسية في أي دستور مستقبلي للبلاد، وتجنب الصياغات المشروطة والغامضة التي وردت في مسودة 2016.13

4.2 للمجتمع المدني الليبي: استراتيجيات للمناصرة والدعم

يلعب المجتمع المدني دوراً حيوياً في الضغط من أجل الإصلاح وتقديم الدعم للأسر المتضررة. ولتعظيم تأثيره، يجب أن يتبنى استراتيجية متكاملة وموحدة.

  • إطلاق حملة وطنية موحدة: استلهاماً من نجاح الحملات الإقليمية مثل حملة “جنسيتي حق لي ولأبنائي” في البحرين ودول الخليج الأخرى 29، يجب على منظمات المجتمع المدني الليبية توحيد جهودها تحت شعار واحد وقوي، مثل
    “جنسيتي حق لي ولأبنائي”.
  • استراتيجية متعددة المحاور:
  • التوعية العامة: استخدام وسائل الإعلام والشهادات الشخصية لتسليط الضوء على البعد الإنساني للقضية، وتفنيد الروايات القائمة على الخوف التي يروج لها المعارضون للإصلاح.4
  • المساعدة القانونية والتقاضي الاستراتيجي: تقديم الدعم القانوني المجاني للأسر المتضررة، والطعن في التطبيق التمييزي للقانون أمام المحاكم، بالاستناد إلى مبدأ المساواة المنصوص عليه في الإعلان الدستوري لعام 2011.59
  • الضغط السياسي: بناء علاقات مباشرة مع أعضاء البرلمان والقيادات السياسية، واستخدام التحليل المقارن الوارد في هذا التقرير لإثبات أن الإصلاح ممكن ومفيد للمصلحة الوطنية.4
  • بناء التحالفات: العمل على بناء تحالفات واسعة تضم شخصيات دينية مستنيرة، وزعماء قبائل، ورجال أعمال، ومثقفين، وذلك لمواجهة التحالف المحافظ الذي يعرقل الإصلاح، وتوسيع قاعدة الدعم المجتمعي للتغيير.

4.3 للمجتمع الدولي: دعم المعايير العالمية

يتحمل المجتمع الدولي مسؤولية في الضغط على ليبيا للوفاء بالتزاماتها الدولية، وتقديم الدعم اللازم لجهود الإصلاح المحلية.

  • ضغط دبلوماسي متواصل: يجب على هيئات الأمم المتحدة (بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، المفوضية السامية لحقوق الإنسان، هيئة الأمم المتحدة للمرأة) والبعثات الدبلوماسية المعتمدة في ليبيا، أن تتجاوز البيانات العامة وتطالب بشكل مستمر وعلني السلطات الليبية بتعديل قانون الجنسية ليتوافق مع المادة 9 من اتفاقية سيداو.53
  • تحدي التحفظات: يجب على لجنة سيداو والدول الأعضاء في الاتفاقية زيادة الضغط على ليبيا لسحب تحفظاتها غير الجائزة على الاتفاقية، والتي تستخدم كذريعة لعدم الامتثال.1
  • الدعم الفني والمالي: تقديم دعم مباشر ومستدام لمنظمات المجتمع المدني الليبية التي تعمل في مجال المناصرة والمساعدة القانونية ورصد الانتهاكات المتعلقة بقضية الجنسية.58
  • دمج القضية في جميع المسارات: إدراج قضية حقوق الجنسية بشكل منهجي في جميع المناقشات المتعلقة بالتحول السياسي في ليبيا، وسيادة القانون، وإصلاح قطاع الأمن. يجب التأكيد على أن الدولة التي تميز ضد نصف سكانها لا يمكنها تحقيق استقرار طويل الأمد، وأن المساواة في المواطنة هي جزء لا يتجزأ من بناء السلام.

الخاتمة

إن قضية حرمان المرأة الليبية من حقها في منح جنسيتها لأبنائها ليست قضية هامشية أو ثانوية، بل هي مقياس دقيق لمدى التزام الدولة الليبية بمبادئ المساواة وحقوق الإنسان وسيادة القانون. إنها جرح غائر تسببه الدولة لنفسها، فهو يؤذي النساء، ويهمش الأطفال، ويضعف النسيج الوطني.

لقد أظهر هذا التقرير بالأدلة القاطعة أن التمييز الحالي هو بنية قانونية وسياسية وثقافية معقدة، ولكنه ليس قدراً محتوماً. فالطريق نحو الإصلاح واضح، ومستند إلى أسس قانونية متينة، وقد سلكته بنجاح دول مجاورة تشترك مع ليبيا في الكثير من الخصائص الثقافية والاجتماعية. إن الحجج المستخدمة لمعارضة التغيير، سواء كانت أمنية أو ديموغرافية أو دينية، قد ثبت أنها واهية عند التحليل الدقيق، وتخفي وراءها مصالح أبوية ورغبة في الحفاظ على امتيازات غير عادلة.

إن استمرار هذا الوضع لا يمثل فقط انتهاكاً لحقوق آلاف الأسر، بل هو أيضاً عائق أمام تقدم ليبيا. فالمجتمع الذي يعامل نصف أفراده كمواطنين من الدرجة الثانية لا يمكن أن يحقق كامل إمكاناته. والوطن الذي يرفض أبناءه ويجعلهم غرباء على أرضه، يخسر طاقات كان يمكن أن تساهم في بنائه وازدهاره.

إن الكرة الآن في ملعب المشرعين والفاعلين السياسيين في ليبيا. فالمجتمع المدني قد رفع صوته، والمعاناة الإنسانية واضحة للعيان، والقانون الدولي يطالب بالمساواة. لم يعد هناك أي عذر للتأجيل أو المراوغة. إن ما ينقص ليس الحلول، بل الإرادة السياسية لتحويل وعود المساواة التي نص عليها الإعلان الدستوري إلى واقع معاش لجميع الليبيين، رجالاً ونساءً، دون تمييز أو نقصان.

المصادر

  1. ليبيا: خطوة إلى الأمام في حقوق النساء في الجنسية – هيومن رايتس ووتش
  2. قانون رقم 24 لسنة 2010 م بشأن الجنسية – المجمع القانوني الليبي
  3. مبدأ المساواة وإشكالية منح الجنسية لأبناء الليبيات المتزوجات من أجانب – جامعة سبها – المجلة العلمية
  4. حرمان أبناء الليبيات المتزوجات من أجانب من اكتساب الجنسية – الشرق الأوسط
  5. ما بين | حق المواطنة لأبناء الليبيات المتزوجات من أجانب – YouTube
  6. قانون الجنسية رقم 17 لسنة 1954 – المجمع القانوني الليبي
  7. قراءة قانونية في أحكام القانون الليبي بشأن ازدواج الجنسية – مركز الجبهة الوطنية للدراسات
  8. قانون رقم 3 لسنة 1979 م بتعديل بعض أحكام قانون الجنسية – المجمع القانوني الليبي
  9. قانون رقم 7 لسنة 1963 م بشأن تعديل بعض أحكام قانون الجنسية رقم 17 لسنة 1954 م – المجمع القانوني الليبي
  10. قانون رقم 7 لسنة 1963 بتعديل بعض أحكام قانون الجنسية رقم 17 لسنة 1954. – المجمع القانوني الليبي
  11. نحو تعزيز حقوق الإنسان لأبناء الليبيات المتزوجات من أجانب – مركز مدافع
  12. ليبيا 2016 دستور – Constitute Project
  13. ازدواج الجنسية في القانون الليبي: دراسة تحليلية – المجمع القانوني الليبي
  14. المأزق الدستوري الليبي: أي مستقبل لمشروع الدستور الدائم؟ – مؤسسة فريدريش إيبرت
  15. قرار رقم 902 لسنة 2022 م بتقرير بعض الأحكام الخاصة بأولاد الليبيات – المجمع القانوني الليبي
  16. أبناء الليبيات المتزوجات بأجانب: معاناة قانونية واجتماعية – YouTube
  17. حقوق أبناء الليبيات المتزوجات من أجانب بين الإنصاف والإجحاف – اندبندنت عربية
  18. منح الحقوق ما عدا الجنسية لأولاد الليبيات المتزوجات من أجانب – YouTube
  19. اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة – DCAF
  20. Gender Justice & The Law – Libya – صندوق الأمم المتحدة للسكان
  21. ليبيا توقف مؤقتاً العمل باتفاقية سيداو – وكالة شهاب الإخبارية
  22. اتفاقية بشأن خفض حالات انعدام الجنسية – المجمع القانوني
  23. المفوضية السامية لحقوق الإنسان والجنسية – OHCHR
  24. Libya – Citizenship Rights in Africa – مبادرة حقوق المواطنة في إفريقيا
  25. رايتس ووتش: عدم منح الجنسية لأولاد الليبيات مخالف للإعلان الدستوري – بوابة الوسط
  26. الهجرة غير الشرعية وأثرها على الأمن القومي الليبي – جامعة الشرق الأوسط
  27. مستقبل الانتخابات في ليبيا بعد إقرار قانون الانتخابات – المركز الليبي للدراسات
  28. حق البحرينية بمنح جنسيتها لأبنائها – Legal Agenda
  29. المجلة المصرية للعلوم الاجتماعية والسلوكية – بوابة المجلات العلمية المصرية
  30. Libya – Amnesty International Report – منظمة العفو الدولية
  31. غرباء في أوطان الأمهات – المؤسسة الليبية للصحافة الاستقصائية
  32. مع أم ضد منح الجنسية الليبية؟ | نص نص – YouTube
  33. مجلة الأكاديمية للعلوم الإنسانية والاجتماعية – أكاديمية الدراسات الإنسانية
  34. Women | Stateless Hub – Stateless Hub
  35. Gender Discriminatory Nationality Laws (GDNL) – كلية القانون – جامعة ملبورن
  36. مطلوب ثورة تشريعية لمناهضة التمييز بحق المرأة العربية – المنار
  37. منظمات المجتمع المدني ترحب بالاستعراض الدوري الشامل للملف الحقوقي – CIHRS
  38. التصدي للعنف ضد النساء والفتيات في ليبيا – المجتمع المدني الليبي للعدالة الانتقالية
  39. بيان من الأمم المتحدة في ليبيا حول اليوم الدولي للقضاء على العنف – بعثة الأمم المتحدة في ليبيا (UNSMIL)
  40. هام | متحدون للدفاع عن حقوق المرأة ومن أجل إقرار حقوق المواطنة الكاملة والمساواة في الأردن – الأردن أمي وجنسيتها حقي
  41. مجلة الجنسية – الفصل 20 – قانون – بوابة القانون التونسي
  42. مجلة الجنسية التونسية (النسخة الكاملة) – Women's Learning Partnership
  43. حقوق الأجانب في تقرير اللجنة التونسية للحريات الفردية والمساواة – Legal Agenda
  44. كيف تحصل على الجنسية التونسية؟ – Tuniscope
  45. المركز القانوني للمرأة والطفل في قانون الجنسية المغربي – المجلة الجزائرية للعلوم القانونية والسياسية
  46. الباب الثالث: في اكتساب الجنسية المغربية – وزارة العدل المغربية
  47. قانون الجنسية – مكتب المحاماة بلفقيه – Bellafkih Law Firm
  48. قانون الجنسية المغربية – نسخة محينة – مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث
  49. مقترح لتعديل قانون الجنسية بالمغرب.. هؤلاء المستفيدون – سكاي نيوز عربية
  50. تعرف على قانون الجنسيات المصري الجديد – مكتب النصر والرشاد
  51. بعد التصديق عليه.. النص الكامل لتعديلات قانون الجنسية المصرية – برلماني
  52. اكتساب الجنسية المصرية لزوجة المصري الأجنبية – وزارة الخارجية المصرية
  53. التجنس بالجنسية المصرية – سفارة مصر بواشنطن
  54. إجراءات الجنسية – وزارة العدل التونسية – وزارة العدل
  55. أزمة أبناء الليبيات المتزوجات من أجانب – العربي الجديد
  56. ليبيا | هيئة الأمم المتحدة للمرأة – الدول العربية – هيئة الأمم المتحدة للمرأة
  57. أزمة الهوية وتأثيرها في عملية التحول الديمقراطي في ليبيا – الأكاديمية الليبية للدراسات العليا
  58. أزمة الهوية الوطنية في ليبيا وانعكاساتها على الاستقرار السياسي – جامعة الزاوية
  59. الشيخ خليفة يسمح للمرأة الإماراتية المتزوجة من أجنبي بمنح الجنسية لأبنائها – جنسيتي حق لي ولأبنائي – الإمارات
  60. LIBYA – UNDP Gender Summary – برنامج الأمم المتحدة الإنمائي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

منشورات ذات صلة