Skip to main content

السلطة التقديرية للمحكّم في التحكيم التجاري الليبي: بين الضمان والتهديد لحقوق الخصوم

السلطة التقديرية للمحكّم في التحكيم التجاري الليبي: بين الضمان والتهديد لحقوق الخصوم

صدر القانون الليبي رقم (10) لسنة 2023 بشأن التحكيم التجاري ليؤكد على المزايا الجوهرية لنظام التحكيم، ومن أبرزها تحصين الحكم التحكيمي من الطعن لقصور التسبيب أو وقوع خطأ في القانون. هذه الميزة التي تمنح التحكيم قوة قانونية باعتباره وسيلة بديلة وسريعة لحل النزاعات قد تتحول إلى سيف مسلط على الخصوم إذا أُسِيء استخدام السلطة التقديرية الممنوحة لهيئة التحكيم في وزن وترجيح أدلة الإثبات.

السلطة التقديرية للمحكّم في تقدير الأدلة

وفقًا للمبادئ العامة في القانون، يتمتع المحكّم -كما القاضي- بحرية اختيار ما يراه مناسبًا من الأدلة وفقًا لاقتناعه الشخصي ووجدانه، دون أن يُلزم بالإفصاح عن أسباب تفضيله دليلاً معينًا على غيره، طالما كان ذلك ضمن نطاق السلطة التقديرية الممنوحة له. وبذلك، يمكن للمحكّم أن يعتمد على شهادة شهود مقدمين من طرف دون الآخر، أو يستند إلى تقرير خبرة معين مع إغفال تقارير أخرى، دون أن يُطالَب ببيان تفصيلي لتلك القرارات.

إلا أن هذه السلطة قد تشوبها عيوب عند ممارستها بطريقة لا تحقق التوازن بين مصالح الأطراف ولا تكفل وضوح الأسباب الداعمة للحكم. وبالنظر إلى أن حكم التحكيم محصن من الرقابة القضائية على الموضوع، فإن هذا التحصين يلقي عبئًا ثقيلاً على هيئة التحكيم بضرورة توخي الدقة وسلامة التسبيب.

العيوب الناشئة عن إساءة استخدام السلطة التقديرية

تؤكد التجارب العملية أن بعض الأحكام التحكيمية تصدر بناءً على تسبيب ضعيف أو نمطي، يعتمد على اقتباسات مقتضبة من شهادات شهود أو تقارير خبرة دون إجراء تحقيق عميق أو موازنة دقيقة بين الأدلة. يظهر ذلك جليًا في الأحكام التي تقتصر على سرد وقائع الدعوى وبيان اتفاق التحكيم، ثم الاكتفاء بالإشارة إلى دليل واحد مع تذييله بعبارات عامة حول حرية الاطمئنان إلى أي دليل.

هذا النهج قد يؤدي إلى إصدار أحكام لا تعكس الجهد المطلوب في البحث عن الحقائق وتقصي وجه العدالة، مما يسبب إضرارًا جسيماً بحقوق الطرف الذي صدر الحكم ضده دون أن يتاح له فهم مبررات استبعاد أدلته أو ترجيح أدلة الطرف الآخر.

ضرورة تقنين ضوابط السلطة التقديرية

رغم عدم وجود ما يمنع صدور أحكام تحكيمية بهذه الكيفية، فإن الضمير القضائي السليم يرفض قبول أحكام كهذه، خاصة في ظل عدم التزام الهيئة التحكيمية باستنفاد سبل استيضاح النزاع ومراجعة كافة الأدلة بعناية. وفي حالات معينة، يصبح الأمر وكأن الهيئة نقلت سلطتها إلى الشاهد أو الخبير الذي استندت إلى أقواله أو تقريره.

لذلك، يتحتم على هيئات التحكيم الالتزام بمبادئ واضحة وشفافة عند ممارسة السلطة التقديرية، بحيث تُظهر الأسباب التي دفعتها لاستبعاد أدلة معينة أو ترجيح غيرها. فإبراز تلك الأسباب لا يعزز فقط الثقة في التحكيم كوسيلة لحل النزاعات، بل يطمئن الخصوم أيضًا بأن الحكم كان مبنيًا على أسس موضوعية وعادلة، بعيدًا عن شبهة القصور أو الإجحاف.

خاتمة: نحو إعادة ضبط السلطة التقديرية

إزاء هذه الإشكاليات، يتطلب الأمر إعادة النظر في الممارسات التحكيمية وتعزيز مسؤولية المحكّمين في تسبيب الأحكام، بما يتضمن بيانًا كافيًا للأسباب التي استندت إليها الهيئة في حكمها. وهذا النهج يسهم في الحد من المخاوف المرتبطة بالسلطة التقديرية، ويعيد لهذه السلطة دورها كأداة لضمان العدالة بدلاً من أن تكون مصدر تهديد لحقوق الخصوم.

لعل ما يُؤمل تحقيقه في المستقبل هو التحول نحو منهج أكثر وضوحًا وشفافية، تتبنى فيه الهيئات التحكيمية التزامًا أخلاقيًا وقانونيًا ببيان أسباب قراراتها، وصولاً إلى تحكيمٍ أكثر عدالة وفعالية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *