القضاء الدستوري ومراجعة القانون رقم 5 لسنة 2023 بشأن إنشاء المحكمة الدستورية في ليبيا
في خضم النقاشات الدستورية والتحولات القانونية في ليبيا، برز موضوع إنشاء محكمة دستورية ليشكل جدلًا عميقًا حول مصدر وأهمية القضاء الدستوري. بتاريخ 7 ديسمبر 2022، أعلن رئيس مجلس النواب عن إنشاء المحكمة الدستورية العليا، استنادًا لما جاء في مسودة الدستور الليبي ضمن المواد (138-145). أثار هذا الإعلان الكثير من النقاشات القانونية والدستورية حول ملاءمة ودستورية هذه الخطوة، خاصةً في ضوء القانون رقم 5 لسنة 2023 الذي صدر بشأن إنشاء المحكمة. تهدف هذه الورقة إلى تسليط الضوء على مفهوم القضاء الدستوري، وتحليل القانون رقم 5 لسنة 2023 من منظور دستوري، وبيان التحديات المرتبطة بإنشاء المحكمة الدستورية.
المحتويات
القضاء الدستوري: المفهوم والدور
الملاحظة الأولى: مفهوم القضاء الدستوري
يعد القضاء الدستوري ركيزة أساسية لحماية الدستور والنظام الدستوري في الدولة، حيث يمثل القيد الذي يفرضه الدستور على السلطة التشريعية من خلال الرقابة على دستورية القوانين التي تمس حياة الأفراد. وتكمن الأهمية الرئيسية للقضاء الدستوري في تحقيق التوافق بين التشريعات الصادرة والدستور، عبر الآليات التي ينظمها الدستور لضمان سلامة التفسير والتطبيق. ومن هذا المنطلق، فإن المصدر الوحيد لشرعية القضاء الدستوري هو الدستور نفسه، مما يضمن استمراريته وحصانته من التأثيرات التشريعية العابرة.
الإطار الدستوري للمحكمة
يبرز السؤال حول ما إذا كان القضاء الدستوري يمكن إنشاؤه عبر قانون تشريعي، إذ يظل أي جسم ينشئه القانون عرضة للتعديل أو الإلغاء بقانون لاحق. ويعد هذا التهديد مقبولًا عند إنشاء هيئة خدمية، لكنه يثير تساؤلات جوهرية عند إنشاء محكمة دستورية، والتي ينبغي أن تكون حصينة بموجب نصوص دستورية.
قراءة في القانون رقم 5 لسنة 2023 بشأن إنشاء المحكمة الدستورية العليا
الملاحظة الثانية: التعليق على القانون رقم 5 لسنة 2023
صدر القانون رقم 5 لسنة 2023 بقرار من مجلس النواب، وأثار هذا القانون نقاط جدل عديدة فيما يتعلق بالتشكيل والاختصاصات، نناقش أبرزها:
- المادة 2 وآلية تشكيل المحكمة
تنص المادة 2 من القانون على تشكيل المحكمة من ثلاثة عشر عضوًا، يتم اختيارهم عبر مجموعة من الأطراف المختلفة، بما في ذلك الجمعية العمومية للمحكمة العليا، والمجلس الأعلى للقضاء، ورئاسة مجلس النواب، ورئيس الدولة. ورغم عدم وجود رئيس دولة في الوقت الحالي، يتساءل البعض عن كيفية التعامل مع هذا النص، مما يعكس خللًا في صياغة القانون ذاته. - المادة 6 واستثناءات التشكيل
تشير المادة 6 إلى أنه في حال وجود ظروف استثنائية، يحق لمجلس النواب تشكيل المحكمة بالكامل. لكن من غير الواضح ماهية هذه “الظروف الاستثنائية”، ولماذا لم تُعطى الصلاحيات للجمعية العمومية أو المجلس الأعلى للقضاء، مما يثير تساؤلات حول مدى اتساق القانون مع المبادئ الدستورية. - المادة 21 وحق الطعن
تنص المادة 21 على أن حق الطعن في دستورية القوانين مقتصر على رئيس مجلس النواب وعشرة نواب أو رئيس الحكومة وعشرة وزراء، مما يحرم الأفراد من ممارسة حقهم في الطعن، ويعتبر تقييدًا لحقوق الأفراد الأساسية في اللجوء إلى القضاء الدستوري لحماية حقوقهم.
التعليق العام على القانون
يعكس هذا القانون قيودًا على حق الأفراد في الطعن، وهو ما يخالف المبادئ الدستورية الراسخة في العديد من النظم الدستورية المقارنة التي تتيح للأفراد ذوي المصلحة الحق في تحدي التشريعات أمام القضاء الدستوري. إضافةً إلى ذلك، يثير إنشاء المحكمة الدستورية العليا تساؤلات حول مدى الحاجة إليها، في ظل وجود الدائرة الدستورية في المحكمة العليا الليبية، التي استقرت كمرجعية للقضاء الدستوري لعقود طويلة.
القرار القضائي بالطعن في القانون رقم 5 لسنة 2023
في 31 مايو 2023، أصدرت المحكمة العليا حكمًا يقضي بعدم دستورية القانون رقم 5 لسنة 2023 بشأن إنشاء المحكمة الدستورية العليا، مما يؤكد على عدم ملاءمة هذا القانون مع النصوص الدستورية الراسخة، ويعزز من موقف المحكمة العليا كمرجع أساسي للقضاء الدستوري في ليبيا.
يسلط هذا التحليل الضوء على أهمية الالتزام بالنصوص الدستورية عند إنشاء الهيئات القضائية الدستورية. فالحفاظ على حيادية وثبات القضاء الدستوري هو ما يضمن تحقيق العدالة وصيانة حقوق الأفراد في مواجهة السلطة التشريعية. وفي الختام، يبقى القضاء الدستوري الملاذ الأخير لحماية الدستور وحقوق الأفراد، ويجب أن يظل معتمدًا على الدستور وحده، بعيدًا عن أي تدخلات تشريعية قد تمس باستقلاله.
اترك تعليقاً