Skip to main content

الدية كعقوبة أم تعويض: تحليل الحكم الدستوري وتأثيره على النظام القانوني الليبي

أثار الحكم الدستوري الصادر من الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا بشأن الدية كعقوبة أو تعويض جدلاً واسعاً في الأوساط القانونية في ليبيا. هذا المقال يستعرض ويحلل الحكم الصادر بعدم دستورية المادة الثالثة مكرر من قانون القصاص والدية، مسلطاً الضوء على تكييف الدية بين العقوبة والتعويض. كما يناقش تأثير هذا الحكم على النظام القانوني الليبي والآثار العملية التي تترتب عليه في المجتمع.

تعليق على الحكم الصادر من الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا (الطعن الدستوري 29/ 59 ق) بعدم دستورية المادة الثالثة مكرر من قانون القصاص والدية

دون أن نستعرض الحكم بكامله تلافياً للإطالة، فإن نص المنطوق هو:

“حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً وبعدم دستورية نص المادة الثالثة مكرر من القانون رقم 7 لسنة 1430م بتعديل بعض أحكام القانون رقم 6 لسنة 1423 بتعديل أحكام قانون القصاص والدية، وينشر في الجريدة الرسمية.”

التعليق:

اعتبرت المحكمة في أسبابها أن الدية تجمع بين وصفي العقوبة والتعويض، وطبقاً للقاعدة المنصوص عليها في الإعلان الدستوري فإنه “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”. ويلاحظ أن تكييف الدية أثار جدلاً قانونياً واسعاً؛ فالبعض يراها عقوبة ومن حق المضرور أن يرفع دعوى للتعويض عما لحقه من ضرر وما فاته من كسب، بينما يراها آخرون تعويضاً، حيث أن دم المجني عليه حق للورثة إن شاءوا طلبوا العقوبة وإن شاءوا عفواً واستلموا الدية تعويضاً لهم عن فقيدهم. أما الرأي الذي انتهت إليه المحكمة فهو اعتبار الدية عقوبة.

فكيف تكون عقوبة وهي مبلغ مالي يدفع لورثة المجني عليه جبراً لخواطرهم وتخفيفاً لآلامهم، ولا يذهب إلى الخزانة العامة، وورثة المجني عليه غير ملزمين باستلامها فيمكنهم التنازل عنها؟ وكيف تكون عقوبة وهي في القتل الخطأ تُدفعها العاقلة أو المجتمع وتتعدد بتعدد القتلى والجاني لا يساهم في الدية بأي شكل – كما يرى المالكية والشافعية -؟ أما في القتل العمد فتدفع من مال الجاني إذا كان لديه مال. وهو ما نصت عليه المادة (4) حيث جاء فيها:

“1. تجب الدية في مال الجاني في القتل العمد وتتعدد بتعدد القتلى. 2. إذا كان القاتل عمداً حدثاً أو مجنوناً فالدية تتحملها العاقلة.”

ونصت المادة (5) على:

“تجب الدية على العاقلة في القتل الخطأ وتتعدد بتعدد القتلى فإن لم توجد عاقلة تولاها المجتمع.”

في القتل العمد، تدفع من مال الجاني، فإذا لم يكن له مال وتسرع أحد أولياء الدم بالعفو، لم يتضمن النص إلزام المجتمع بها. فأين هي العقوبة التي لا تمس الجاني إلا في ماله؟ فلم يعالج المشرع حالة الجاني الذي لا مال له ومن ثم فهذه العقوبة لا تمس جسده؛ فالعقوبة هي جزاء يقرره الشارع في حق كل من يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، أو يعين آخر على مخالفة تلك الأحكام. وتختلف طبيعة ذلك الجزاء باختلاف الجرم حدّةً وخفة. لأغراض عدة للعقوبة نذكر منها: تحقيق العدالة، وتحقيق الردع العام، والردع الخاص، ووظيفة الردع الخاص فيما يتركه ألم العقوبة من أثر نفسي في المحكوم عليه يحول بينه وبين العودة إلى الإجرام مرة ثانية، وكذلك إصلاح الجاني. وهذا المفهوم للعقوبة مشترك بين القوانين الوضعية في الشريعة الإسلامية.

ولعل ما دعا الدائرة الدستورية إلى اعتبار الدية عقوبة هو صياغة المادة (1) من قانون القصاص والدية، حيث نصت قبل التعديل على:

“يعاقب بالإعدام قصاصاً كل من قتل نفساً عمداً إذا طلبه أولياء الدم ويسقط القصاص بالعفو ممن له الحق فيه وتكون العقوبة الدية.”

وبعد التعديل أصبحت الصياغة:

“يعاقب بالإعدام قصاصاً كل من قتل نفساً عمداً، وفي حالة العفو ممن له الحق فيه، تكون العقوبة السجن المؤبد والدية.”

فسمى الدية عقوبة سواء في القتل الخطأ أو القتل العمد. ولو رجعنا إلى المصدر الرئيس وهو القرآن الكريم، فإن الدية وردت في موضع واحد وهو الآية 92 من سورة النساء:

“وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنَاً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ…”

فالنص القرآني لم يعرف الدية بأنها عقوبة، ووضعها في صياغة هي أقرب للتعويض وهي متعلقة بالقتل الخطأ. أما الدية في القتل العمد فمصدرها السنة وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم:

“من قتل له قتيل، فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن يُفْدَى”

وكذلك حديث:

“من أصيب بدم، أو خبل، فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: أن يقتل، أو يعفو، أو يأخذ الدية…”

ويقول الفقهاء:

“إن القضاء بالدية فيه ترضية للمجني عليه وأهله حيث تشفى ما في نفوسهم من الألم والغيظ”

بمعنى أنها تعويض لما لحق بأولياء الدم من ألم بفقد مورثهم، وهو حق شخصي لهم إن شاءوا استلموه وإن شاءوا تنازلوا عنه. فكيف يعتبر عقوبة؟

لقد أنتج الواقع العملي اجتهاداً لا بأس به، وهو ما نصت عليه المادة (3) مكرر من قانون القصاص والدية:

“يحدد المقدار المالي للدية بما يقبل به ولي الدم.”

وهو النص الذي حكم بعدم دستوريته، لأنه صدرت أحكام عديدة من القضاء العادي بتحديد الدية بمائة من الإبل، وتحديدها صعب لأن الإبل ليست منتشرة في كل أنحاء ليبيا خاصة في المدن، بالإضافة إلى أن أسعارها متذبذبة، وهل لو قام الملزم بها بإحضارها عيناً – وهو الأصل – بأن يشحن مائة ناقة إلى حي من أحياء طرابلس، هل ستقبل من ولي الدم؟ وآخر سعر للناقة هو عشرة آلاف دينار، بمعنى أن الدية سواء في الخطأ أو العمد هي مليون دينار، وهو مبلغ يعجز عنه الجاني في القتل العمد وتعجز عليه العاقلة في القتل الخطأ ويرهِق ميزانية الدولة.

إن العرف جرى في المنطقة الشرقية أنه في القتل الخطأ تكون الدية عشرة آلاف دينار يضاف إليها ثلاثة آلاف دينار تعزية، وفي كثير من الأحيان يتم التنازل عنه. وفي المنطقة الغربية نادراً ما يطلبون الدية، أما في القتل العمد فإن أقصى مبلغ تم التصالح عليه هو نصف مليون دينار وفي الغالب ما بين مائة ألف وثلاثمائة ألف دينار، وهو ما يوافق ما نصت عليه المادة (3) مكرر المحكوم بعدم دستوريتها.

وقد قالت المحكمة في أسبابها عندما اعتبرت الدية عقوبة:

“… وتنص المادة 31 من الإعلان الدستوري المؤقت على أنه “لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على نص…”

لما كان ذلك وكانت الدية في جرائم القتل تجمع بين وصفي العقوبة والتعويض، فإنه يجب أن يحدد مقدارها بنص في القانون وفي الحدود المقررة في المصدر الرئيسي للتشريع، عملاً بالقاعدة الدستورية المشار إليها التي تقضي بألا عقوبة دون نص، وإذ خالف النص المطعون فيه ذلك ولم يحدد مقدار الدية وترك ذلك لولي الدم فإنه يكون قد خالف المادة الأولى من الإعلان الدستوري المشار إليها وهو ما يقتضي تدخل المشرع لمعالجة ذلك ويتعين معه الحكم بعدم دستورية النص المطعون فيه.

وترتب على ذلك أنه رغم مضي أحد عشر عاماً على صدور هذا الحكم، فإن المشرع لم يتدخل ويحدد مقدار الدية لكي يحكم بها. وترتب كذلك أن بعض المحاكم أوقفت نظر الدعاوى لحين تدخل المشرع بتحديد مقدار الدية فتعطلت هذه الأحكام، ومحاكم أخرى أصبحت تصدر أحكاماً بمعاقبة المتهم بالدية وتترك تحديد مقدارها للتنفيذ.

حقيقة مع احترامي الشديد لزملائي أعضاء الدائرة الدستورية التي أصدرت الحكم محل التعليق، كنت أتمنى أن المحكمة اتخذت مساراً آخر في الاجتهاد، تأسيساً على أن موضوع الدية محل خلاف بين من يرى أنها عقوبة ومن يرى أنها تعويض. فكان الأفضل أن تميل إلى اعتبارها تعويضاً بحيث يستقيم الاجتهاد مع القواعد العامة في النظام القانوني الليبي ويستقيم أيضاً مع الواقع العملي، مثل اجتهادها الرائع في تطبيق المادة (9) من قانون السرقة والحرابة التي نصت على أن تثبت باعتراف الجاني بمرحلة التحقيق أو المحاكمة، أو بالشهادة، أو بأي وسيلة إثبات علمية. حيث قالت:

“لما كان جمهور فقهاء المسلمين قد أجمعوا على أن السرقة والحرابة المعاقب عليهما حداً لا تثبتان إلا بالإقرار في مجلس القضاء أو البينة، وهي شهادة رجلين عدليين وفقاً لهذين المصدرين: القرآن والسنة. وبالتالي حكمت المحكمة العليا الليبية بدوائرها المجتمعة بعدم دستورية نص المادة التاسعة من القانون رقم 10/ 1369 فيما تضمنه من جواز إثبات جريمتي السرقة والحرابة باعتراف الجاني بمرحلة التحقيق أو أية وسيلة إثبات علمية (الطعن الجنائي رقم 1843 – 57 ق جلسة 1 / 2 / 2017م).”

لأن الدائرة الدستورية تملك الاجتهاد والتأصيل الموسع بأنه وإن نص المشرع على مصطلح العقوبة إلا أنه بالتفسير الغائي للنصوص القانونية، فإن الدية في حقيقتها تعويض لجبر الضرر الذي لحق الورثة من وفاة مورثهم وهي تختلف عن معنى العقوبة في الشريعة الإسلامية وفي النظام القانوني التي تعني إيلام الجاني في بدنه أو إلزامه بدفع مال يؤول للخزانة العامة.

رأينا هذا اجتهاد يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ونستهدي بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث الاجتهاد الذي رواه عمرو بن العاص وما جاء في معناه، وهو في الصحيحين عن النبي ﷺ قال:

“إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر.”

بقلم: المستشار جمعة عبدالله بوزيد
12/8/2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *