تجربة المحافظ الاستثمارية في الميزان: تحليل شامل للأزمة والتشريعات
تُعد المحافظ الاستثمارية أحد الأدوات المالية التي تهدف إلى تحقيق العوائد من خلال الاستثمار في الأسهم والسندات وأدوات مالية أخرى. إلا أن تجربة المحافظ الاستثمارية في ليبيا تبرز العديد من التحديات والمشاكل التي أثرت على المستفيدين منها، خاصةً في ظل التشريعات المتعددة والفتاوى الدينية المتضاربة. في هذا المقال، نستعرض تاريخ أزمة المحافظ الاستثمارية في ليبيا، التشريعات المتعلقة بها، والآثار الاقتصادية والاجتماعية لهذه الأزمة على المواطنين المستحقين.
نعرض أيضاً رؤية شاملة لأسباب الفشل والعوائق التي واجهت تنفيذ نظام المحافظ الاستثمارية بشكل فعال، بالإضافة إلى مقترحات للإصلاح والتطوير لضمان تحقيق الأهداف المنشودة وتخفيف العبء على الميزانية العامة للدولة.
وأزمة ملاك المحافظ الاستثمارية التي طال أجلها ولم تجد لها حلا صفحة من صفحات الظلم الاجتماعي. فمن ذا الذي يحرك مياهها الراكدة بعد مضي أكثر من عشر سنوات؟
المحتويات
فكرة توزيع ثروة النفط على الفقراء
لقد طرحت فكرة توزيع ثروة النفط على الفقراء في خطاب للقذافي ومن البداية لاح في الأفق فشلها لأن اشترط شروطا كثيرة صعبة التحقق. وقررتها المؤتمرات الشعبية سنة 2008، وعليه صدرت عدة تشريعات بنيت على أساس أن يخصص جزء من عائدات النفط لهذا الغرض بحيث تتبرع الدولة بمبلغ ثلاثين ألف دينار لكل مواطن فقير على أن لا تسلم له مباشرة بل تستثمر عن طريق نظام المحافظ الاستثمارية بشراء سندات الشركات المعروفة في ليبيا والتي يغلب في أعمالها الربح ومنها:
- الشركة العامة للمطاحن والأعلاف
- الشركة الليبية للإسمنت
- الشركة الأهلية للإسمنت
- الليبية للاستثمار والتنمية
- مصرف الصحاري
- مصرف الوحدة
- شركتي الاتصالات (ليبيانا والمدار)
- صندوق الاستثمارات النفطية
- المحافظ الاستثمارية الدولية
- شركة ليبيا للكابلات
ويمنح المستفيد عائد استثمارها، وأوكل الأمر إلى هيئة التضامن الاجتماعي لتحديد المستحقين وإلى صندوق الإنماء الاقتصادي لاستثمار هذه الأموال ولتمثيل المستحقين في عقود تم توقيعها معها. وقد صدرت عدة تشريعات لتنظيم هذا العمل، ومن ضمن شروطها أن يوقف صرف المعاشات الأساسية أو الضمانية إذا كان من المستفيدين منها بحيث يحل عائد الاستثمار محلها.
التشريعات المنظمة للمحافظ الاستثمارية
قرار مؤتمر الشعب العام رقم 1 لسنة 2009
نصت المادة (1) منه على أنه:
أولاً: برنامج توزيع الثروة:
- البدء في تنفيذ برنامج توزيع الثروة بعد استكمال المسوحات الاجتماعية والاقتصادية وتحديد الآليات ووضع المعايير والضوابط والأسس التي من شأنها إعداد قاعدة بيانات حقيقية عن الأسر الليبية المستهدفة بكل دقة من خلال التعامل مع الرقم الوطني لكل فرد وتصنيف المستويات المعيشية، واستكمال البنية التحتية والمشاريع الإستراتيجية.
قرار اللجنة الشعبية العامة رقم 356 لسنة 2009
نصت المادة (1) منه على أن:
صندوق الإنماء الاقتصادي والاجتماعي شركة مساهمة ليبية تسمى (صندوق الإنماء الاقتصادي والاجتماعي) تأسست لإدارة أموال المستفيدين المخصصة والمسددة لهم من برنامج توزيع الثروة واستثمارها لصالحهم بهدف تنميتها وتحقيق عوائد لهم تساهم في تحسين مستوى معيشتهم، ويشار لها في هذا القرار بالصندوق.
كما نصت المادة (3) منه على أن للصندوق القيام بجميع أوجه النشاط التي تحقق أهدافه وتعمل على تنمية الموارد التي يديرها ودعم مصالح المستفيدين، ثم حدد صورا من هذه النشاطات.
إيقاف صرف المعاشات الأساسية
على إثر ذلك تم إيقاف صرف المعاشات الأساسية لمستحقيها اكتفاء بما ينالونه من استثمار المحافظ الاستثمارية المخصصة لهم. إلا أن نظام المحافظ الاستثمارية كما هو معروف في نظام الاستثمار يقتضي أن يتم توزيع الأرباح بعد انتهاء السنة المالية لأنه ليس في جميع الفروض أن تكون هناك أرباح، فقد تكون وهو الغالب، ولكن أحيانا لا تتحقق أرباح، وقد تتحقق خسائر أو لا خسائر ولا أرباح. إلا أن المواطنين المخصصة لهم هذه المحافظ اعترضوا على فكرة دفع الأرباح سنويا وطلبوا أن تدفع لهم مرتبات شهرية خصما من الأرباح، فاضطرت اللجنة الشعبية العامة أن تصدر قرارا بصرف مستحقات شهرية وهو أمر غير معروف في نظام استثمار المحافظ حيث صدر قرار اللجنة الشعبية العامة رقم 200 لسنة 2008 بشأن صرف دفعات شهرية من مخصصات حساب توزيع الثروة للموظفين غير المسكنين بالملاكات الوظيفية. حيث نصت المادة (1) على أن:
تتولى اللجنة الشعبية العامة للمالية صرف دفعات شهرية من مخصصات حساب توزيع الثروة للموظفين غير المسكنين بالملاكات الوظيفية وبما لا يقل عن مرتبات نظائرها المسكنين على الملاكات الوظيفية، وذلك إلى حين إقرار الضوابط الخاصة بتوزيع الثروة. ويوقف صرف مرتبات أولئك غير المسكنين بالتزامن مع صرف الدفعات الشهرية المشار إليها.
قرار اللجنة الشعبية العامة رقم 51 لسنة 2007
نصت المادة (1) على أن:
يمنح من بلغ سن ثمانين سنة ميلادية معاشا أساسيا قدره (130) مائة وثلاثون دينار شريطة ألا يكون ممن يتقاضون معاشا أساسيا أو ضمانيا أو يكون من المستفيدين من برنامج الأسر محدودة الدخل في إطار برنامج توزيع الثروة.
قانون رقم 1 لسنة 2013 بشأن منع المعاملات الربوية
نصت المادة (1) منه على أن:
يمنع التعامل بالفوائد الدائنة والمدينة في جميع المعاملات المدنية والتجارية التي تجرى بين الأشخاص الطبيعية والاعتبارية، ويبطل بطلانا مطلقا كل ما يترتب على هذه المعاملات من فوائد ربوية ظاهرة أو مستترة. ويعتبر من قبيل الفائدة المستترة كل عمولة أو منفعة مهما كان نوعها يشترطها الدائن إذا ثبت أن هذه العمولة أو المنفعة لا تقابلها منفعة أو خدمة حقيقية مشروعة يكون الدائن قد أداها.
ثم صدرت فتوى من دار الإفتاء انتهت إلى أن هذا العقد لا يجوز التوقيع عليه لأنه يتضمن شراء سندات في مصارف ربوية وأخذ فوائد عليها، والعقد إذا جمع حلالا وحراما لا يجوز التوقيع عليه والرضا به. فإن الصفقة الواحدة إذا اجتمعت على حلال وحرام، كشراء ثياب وخمر، أو كقطعتي أرض إحداهما مملوكة والأخرى محبسة، أو شاتين إحداهما مذبوحة والأخرى ميتة، فالراجح أن البيع كله فاسد يجب رده إذا علم المتبايعان أو أحدهما بالحرام في إحدى الصفقتين كما في الشرح الكبير على مختصر خليل (انظر الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3/15)، لأنه إذا اجتمع الحلال والحرام غُلِّب الحرام، كما هي القاعدة. والأسهم في الشركات غير الربوية، الإسهام فيها على أن يُضمن لصاحب السهم 220 دينارا شهريا بغض النظر عن الربح والخسارة، هذا أيضا عقد ربوي، لأن المشاركة بضمان قدر من الربح لأحد الطرفين لا تجوز بإجماع أهل العلم، فالتوقيع على هذا العقد والرضا به غير جائز شرعا لما يتضمنه من الإجراءات والشروط غير الشرعية، فإن تم تحويل مبلغ 220 دينارا إلى حسابه من صندوق التضامن دون أن يُوَقِّع المستفيد على العقد أو يرضى به، فعلى المستفيد أن يتخلص من الجزء الخاص بالمصارف. ….
(مع أن هذه الفتوى محل نظر لأن الكثير من الدول ومنها دول الخليج أفتى مفتوها بغير ذلك على سند أن المعاملات الربوية بين الأب وابنائه ليست حراما والدولة مثل الأب بالنسبة للمواطنين).
القانون رقم 25 لسنة 2013
بناء على ذلك صدر القانون رقم 25 لسنة 2013 بشأن إجراء مناقلة مالية وتقرير بعض الأحكام الخاصة بالمحافظ الاستثمارية. فنصت المادة (1) منه على أن:
يُؤذن لمجلس الوزراء بإجراء مناقلة مالية من الباب الثالث من ميزانية العام 2013 بمبلغ قدره (854.834.400 د.ل.) فقط ثمانمائة وأربعة وخمسون مليوناً وثمانمائة وأربعة وثلاثون ألفاً وأربعمائة دينار ليبي على أن يتم إدراج المبلغ المنقول في الباب الثاني من مخصصات وزارة المالية لتغطية مستحقات أصحاب المحافظ الاستثمارية حتى تاريخ 31 ديسمبر 2013. وعلى مجلس الوزراء تحديد البند أو البنود التي سيتم نقل هذه المخصصات منها في الباب الثالث من ميزانية هذا العام.
ثم نصت المادة (3) منه على أن:
يُجمد برنامج توزيع الثروة اعتباراً من تاريخ 1/ أكتوبر/2013.
ونصت المادة (4) منه على أن:
تُشكل لجنة برئاسة …. وعضوية …….. وتتولى اللجنة وضع الحلول والآليات المناسبة لمعالجة أوضاع أصحاب المحافظ الاستثمارية تتوافق مع أحكام القانون رقم (1) لسنة 2013 بشأن منع المعاملات الربوية، وللجنة الاستعانة بمن ترى ضرورة الاستعانة به لإتمام عملها في أجل غايته ستون يوماً من تاريخ صدور هذا القانون.
إلا أن هذه اللجنة لم تقدم أية حلول وظل الأمر على ما هو عليه، لا معاشات ضمانية ولا أرباح حوافط مما جعل المستحقين في ظروف عصيبة.
عيوب نظام المحافظ الاستثمارية
ومن ذلك يتضح أن نظام المحافظ الاستثمارية المعمول به يعتوره الكثير من العيوب، ويختلف عن نظام المحافظ الاستثمارية التي تقتضي أن يكون المال للمستثمر والذي يحق له أن يسحبه في أي وقت أو ينقله إلى شركة استثمار أخرى. فهو في حقيقته نظام بديل عن معاشات الضمان الاجتماعي ويهدف إلى تخفيف العبء على ميزانية صندوق التضامن والضمان الاجتماعي لينقل العبء على ميزانية الدولة مما اضطر المشرع أن يصدر القانون رقم 25 لسنة 2013 بشأن إجراء مناقلة مالية وتقرير بعض الأحكام الخاصة بالمحافظ الاستثمارية. فنصت المادة (1) منه على أن:
يُؤذن لمجلس الوزراء بإجراء مناقلة مالية من الباب الثالث من ميزانية العام 2013 بمبلغ قدره ثمانمائة وأربعة وخمسون مليوناً وثمانمائة وأربعة وثلاثون ألفاً وأربعمائة دينار ليبي لتغطية المحافظ الاستثمارية والتي كان يجب أن تحقق هذه المبالغ من أرباح الاستثمارات.
ومما يزيد الأمور تعقيدا هو صدور القانون رقم 1 لسنة 2013 بشأن منع المعاملات الربوية ثم صدور الفتوى المتشددة المشار إليها التي أثبت فيها المفتي حرمة هذا النوع من العمل مع العلم أنه في دولة السعودية ودول الخليج وجمهورية مصر صدرت فتاوى بمشروعية نظام المحافظ الاستثمارية.
نظام المحافظ الاستثمارية في العالم
أنا لست ضد نظام المحافظ الاستثمارية، فهو نظام معمول به في دول العالم المتقدم، وهو يقوم على فكرة تجارة المال في الأسهم والسندات والعملات … إلخ. وهو يقوم بنقل هذه الأموال بالبيع والشراء لتحقيق أكبر عائد ممكن من أرباح هذه الأموال. وتحتاج هذه العملية إلى خبرة كبيرة وتقوم بها عادة شركات أو مؤسسات متخصصة. ولكن يجب أن تترك لقانونها الطبيعي وهو أن يبادر المواطن إلى الاستثمار في سوق المال بوضع أمواله في محافظ استثمارية تديرها شركات لها خبرة وسمعة طيبة، فإذا كان عند المواطن أموال أراد أن يستثمرها يسلمها لهذه الشركات أو المؤسسات المتخصصة تسمى صناديق الاستثمار أو الإنماء. وتعتمد هذه الشركات على قاعدة توزيع المخاطر بحيث لا تحتفظ بنوع واحد من هذه الأسهم والسندات أو العملات لأنها عادة إذا انخفضت أرباح إحداها ارتفعت الأخرى فيكون الهدف في الغالب من المحفظة الاستثمارية الحد من المخاطر أو ما يعرف بالتنويع (diversification)، وذلك من خلال امتلاك أكثر من أصل واحد. حيث أن الاستثمار في الأوراق المالية من أسهم وسندات وملحقاتها ومشتقاتها يستهدف تحقيق عائد في المستقبل الذي هو من الغيبيات في لحظة اتخاذ قرار الاستثمار، فإن العائد المستهدف يحتمل حالات غيبية سيتحقق منها واحدة فقط. فقد يتحقق العائد مطابقا للتوقع تماما، وقد يتحقق أعلى أو أقل من المتوقع، وقد لا يتحقق إطلاقا، وقد تتحقق خسارة عوضا عن العائد، ويتوقف كل ذلك على عوامل ترتبط بالورقة المالية نفسها بالإضافة إلى عوامل ترتبط بحركة النظام الاقتصادي المحلي والعالمي.
تأثير المحافظ الاستثمارية على العائلات الفقيرة
وعليه فإن الموضوع أقر لمساعدة العائلات الفقيرة إلا أنه زادها فقرا وبؤسا وأرهق ميزانية الدولة. وقد بينت حقائق الواقع أن الكثير من الذين استفادوا من هذه المحافظ لم يكونوا فقراء بل أكثرهم كانت أوضاعهم المادية جيدة. فالمسوح الميدانية كانت تعتمد على الإقرارات الضريبية وإقرارات تعبأ تثبت أن الدخل ضعيف وهي إقرارات فاقدة للمصداقية وكثيرا ما تعتمد على بيانات مزورة.
أليس من الأصوب والأصح أن لا تخلق أجسام موازية لمظلة الضمان أو التضامن الاجتماعي ترهق ميزانية الدولة وتهدر أموالا في غير طائل؟ أليس من الأفضل أن يتم تطوير وإصلاح وتحديث مظلة الضمان والتضامن فهي لا علاقة لها بالميزانية العامة للدولة وهي تنفق على نفسها من نفسها وهي الأكثر خبرة في فهم الظروف الاجتماعية؟
اترك تعليقاً