مصالحة بلا أساس أم بداية حل؟ قراءة نقدية في مرسوم المجلس الرئاسي رقم 2 لسنة 2025 بشأن المصالحة الوطنية
تدخل ليبيا عام 2025 وهي لا تزال عالقة في دوامة من الانقسام السياسي والدستوري والمؤسسي، حيث غابت الانتخابات، وتأخر الاستفتاء على مشروع الدستور، وتعطلت أدوات التوافق الوطني. في هذا السياق المضطرب، أصدر المجلس الرئاسي ما سُمي بـ”مرسوم بقانون رقم 2 لسنة 2025″، الهادف إلى إنشاء “المؤتمر العام للمصالحة الوطنية” (مصالحة) عبر تمثيل بلدي منتخب. ورغم تقديمه كقانون نافذ، فإن غياب الإسناد التشريعي ووضوح التداخل في الصلاحيات دفع كثيرين إلى اعتباره مجرد مبادرة تنظيمية ذات طابع سياسي، تفتقر إلى الشرعية القانونية. ومع أن محتواه لا يخلو من نية المساهمة في معالجة ملف المصالحة، إلا أنه يطرح من الأسئلة أكثر مما يقدم من حلول. هذا المقال لا ينطلق من حكم مسبق، بل يهدف إلى تحليل المبادرة بعيون نقدية هادئة، ضمن قراءة متعددة الزوايا تشمل النص، والشرعية، والتفاعل المؤسسي، والجدوى، والبدائل الممكنة. وعلى امتداد ثمانية محاور رئيسية، نسعى إلى تقديم مقاربة تجمع بين القانون والسياسة والواقع الاجتماعي، وصولًا إلى تصور عملي لمشروع مصالحة حقيقي يعبُر من النوايا إلى الفعل، ومن المركز إلى المجتمع، ومن الشك إلى البناء.
المحتويات
- قراءة تحليلية في نص المقترح الصادر عن المجلس الرئاسي (2025)
- هل يملك المقترح شرعية قانونية؟ قراءة دستورية هادئة
- ردود الفعل… حين تكشف المواقف أكثر من النص نفسه
- جدوى المقترح سياسيًا واجتماعيًا… خطوة رمزية أم معالجة حقيقية؟
- من الفكرة إلى القانون… ما الذي يجب أن يتضمنه أي مشروع مصالحة حقيقي؟
- من ردّ الفعل إلى الفعل الوطني – خارطة طريق لتصحيح المسار
- حين تُصبح الدولة طرفًا في المصالحة – دور البرلمان والمؤسسات الوطنية
- أزمة الشرعية والفاعلية في مجلس النواب – حين تتآكل المؤسسة ويترنح المسار
- مرفقات مرجعية ومصادر داعمة للتحليل
- المراجع
قراءة تحليلية في نص المقترح الصادر عن المجلس الرئاسي (2025)
حين نقرأ النص الذي أصدره المجلس الرئاسي تحت عنوان “مرسوم بقانون رقم 2 لسنة 2025″، أول ما يلفت النظر ليس محتواه، بل السياق الذي وُلد فيه. فالمبادرة، وإن جاءت في وقت يتعطش فيه الليبيون لأي تحرك يُعيد فتح ملف المصالحة، لم تمر عبر أي من القنوات التشريعية المعتادة، مما يجعلها أقرب إلى مقترح سياسي – تنظيمي منها إلى قانون فعلي. ولهذا، فإن التعامل معها كنص ذي صبغة إلزامية سيكون مبالغة، لكنها في الوقت ذاته تستحق التوقف والتحليل، لأنها تكشف – ولو ضمنيًا – كيف تفكر السلطة التنفيذية في معالجة هذا الملف الثقيل.
النص يُقسم تصور “المصالحة الوطنية” إلى مستويين: أحدهما محلي، والآخر وطني.
على المستوى المحلي، يقترح إنشاء منصب جديد في المجالس البلدية تحت مسمى “عضو المصالحة الوطنية”، يُنتخب ضمن القوائم البلدية، ويُفترض فيه أن يتحلى بالحياد وحسن النية وألّا يكون من أصحاب المظالم. الاشتراطات الأخلاقية في ظاهرها تعكس نية طيبة، لكنها تطرح تساؤلات: من يحدد “الحياد”؟ ومن يفصل في “الصلاح”؟ ثم كيف نضمن أن يكون هذا العضو فاعلًا وليس ديكورًا رمزيًا؟
من حيث المهام، يُكلف العضو المقترح بمتابعة برامج المصالحة، رصد الانتهاكات، المساهمة في حل النزاعات المحلية، وتمثيل البلدية في المؤتمر الوطني المزمع إنشاؤه. وقد تبدو هذه المهام طموحة، لكن واقع المجالس البلدية في ليبيا – من حيث الإمكانات، الصلاحيات، والموارد – يجعل من الصعب تخيل تنفيذها دون دعم تشريعي ومؤسساتي واضح.
أما على المستوى الوطني، فيُقترح تشكيل “المؤتمر العام للمصالحة الوطنية” بعضوية ممثلي البلديات المنتخبين لهذا الغرض، على أن يتخذ من مدينة سرت مقرًا له، مع إمكانية التنقل. ويتولى هذا المؤتمر، وفق النص، اعتماد استراتيجية المصالحة، متابعة المفوضية الوطنية العليا، المصادقة على الميثاق الوطني، واعتماد ميزانية المفوضية.
لكن هنا أيضًا، تبرز أسئلة معلّقة: هل هذا المؤتمر هيئة ملزمة أم استشارية؟ ما مدى استقلاليته عن السلطة التنفيذية التي أنشأته؟ وما علاقته بباقي المؤسسات القائمة؟ غياب الإجابة عن هذه الأسئلة يُضعف من وضوح البناء القانوني المقترح.
تنظيميًا، يفترض النص أن يتولى عمداء البلديات مهام عضو المصالحة في حال تعذر انتخابه، وأن تتولى المفوضية العليا للانتخابات إدارة عملية الانتخاب مؤقتًا. وهذه حلول تبدو مرنة، لكنها تؤكد مرة أخرى أن المقترح لا زال في طور التجريب، لا الإقرار النهائي.
بشكل عام، تبدو الوثيقة وكأنها محاولة لربط التمثيل المحلي بالمشروع الوطني للمصالحة – وهي فكرة لا غبار عليها من حيث المبدأ – لكن طريقة تقديمها، وصياغتها خارج الإطار التشريعي، وافتقارها للمكونات الجوهرية للمصالحة (مثل العدالة، المحاسبة، جبر الضرر)، تجعلها أقرب إلى هيكل إداري بلا قلب قانوني. إنها محاولة لبناء بناء جديد… لكن على أساس لم يُصب بعد.
هل يملك المقترح شرعية قانونية؟ قراءة دستورية هادئة
حين نتحدث عن القوانين في ليبيا، فإن المرجع الأول يظل الإعلان الدستوري الصادر عام 2011، وتعديلاته، خاصة التعديل الحادي عشر لسنة 2021، الذي لم يترك مجالًا للتأويل: السلطة التشريعية محصورة في مجلس النواب. وبناء عليه، فإن إصدار “مرسوم بقانون” من المجلس الرئاسي، دون تفويض صريح، لا يمكن اعتباره قانونًا نافذًا بالمعنى الدستوري، بل هو في أحسن الأحوال مبادرة تنظيمية ذات طابع سياسي.
هذا الموقف لم يعد نظريًا، بل تعزز بالممارسة. ففي 29 أبريل 2025، أصدر المجلس الرئاسي مرسومًا بقانون رقم 1 لسنة 2025، يقضي بوقف آثار القانون رقم 5 لسنة 2023 المتعلق بإنشاء محكمة دستورية عليا، مستندًا إلى حكم المحكمة العليا بعدم دستورية القانون. هذا المرسوم – رغم استناده إلى حكم قضائي – طرح نفس الإشكالية: هل للمجلس الرئاسي سلطة إصدار مراسيم بقوة القانون؟
النص استند إلى مبررات تتعلق بواجب حماية المسار الدستوري، وضمان احترام الأحكام القضائية، وادّعى وجود “حالة ضرورة” تبرر التدخل التشريعي. لكنه لم يصدر استنادًا إلى حالة طوارئ معلنة رسميًا وفق القواعد الدستورية، ولم يحصل على تفويض من مجلس النواب، ولم يُعرض عليه لاحقًا.
بالتالي، فإن مرسومي المجلس الرئاسي رقم 1 و2 لسنة 2025 يشتركان في جوهر الخلل: تجاوز السلطة التشريعية، ومحاولة خلق صلاحيات تشريعية للمجلس التنفيذي في غياب توافق وطني أو إطار دستوري واضح. بل إن المرسوم الأول يُظهر ميلًا متزايدًا لدى المجلس الرئاسي نحو ممارسة وظائف تشريعية، بذريعة الضرورة أو الفراغ السياسي، ما يُنذر بتكريس سلوك موازٍ للعملية التشريعية الرسمية.
وعليه، فإن مرسوم رقم 2 بشأن المصالحة لا يمكن النظر إليه بمعزل عن السياق الذي سبقته فيه محاولة وقف قانون صادر عن مجلس النواب (مرسوم رقم 1). الاثنان يكشفان توجهًا نحو ملء الفراغ التشريعي بقرارات تنفيذية، ما يُهدد مبدأ الفصل بين السلطات، ويضعف من شرعية أي نص قانوني لا يصدر عن الهيئة المخولة دستوريًا.
ردود الفعل… حين تكشف المواقف أكثر من النص نفسه
لم يكن مضمون الوثيقة هو ما أثار الجدل وحده، بل الطريقة التي طُرحت بها، والجهة التي بادرت. صدور ما سُمي بـ”مرسوم بقانون” من المجلس الرئاسي، خارج أي سياق تشريعي واضح، سرعان ما تَحوّل إلى اختبار سياسي لكل المؤسسات الفاعلة في ليبيا: من يعترف؟ من يعترض؟ ومن يلتزم الصمت؟ ردود الفعل لم تكن متجانسة، لكنها في مجموعها كشفت عن هشاشة التوازن بين السلطات، وأكدت أن ملف المصالحة ما يزال أداة صراع لا موضوع توافق.
مجلس النواب: لا شرعية، لا قبول، وتحذير مبكر
كما هو متوقع، جاء موقف مجلس النواب حاسمًا وسريعًا. رئيسه، المستشار عقيلة صالح، لم يكتفِ برفض الوثيقة، بل وصفها بأنها “منعدمة الأثر”، معتبرًا أنها تمثل تعدّيًا صريحًا على اختصاص السلطة التشريعية. كلمات تحمل نَفَسًا قانونيًا، لكنها تعكس أيضًا حساسية البرلمان تجاه أي محاولة تنفيذية لسحب بساط التشريع من تحت قدميه.
بعض النواب ذهبوا أبعد، ملوّحين بالطعن في حال جرى تطبيق المبادرة، ومؤكدين أن ما جرى يُشكل سابقة تهدد مبدأ الفصل بين السلطات. المثير أن هذا الحزم في الخطاب السياسي لم يُرافقه حتى الآن فعل قانوني عملي لمواجهة المرسوم، ما يفتح الباب لسؤال آخر: هل يكتفي البرلمان برد الفعل، أم أنه فقد زمام المبادرة التشريعية بالفعل؟
الحكومة المكلفة في الشرق: اصطفاف واضح خلف البرلمان
الحكومة الليبية برئاسة أسامة حماد سارعت إلى دعم موقف مجلس النواب، ووصفت المقترح بأنه “اعتداء” على صلاحياته، معتبرة أن تشكيل مؤتمر وطني للمصالحة لا يمكن أن يتم إلا عبر قانون واضح صادر عن البرلمان. بل أضافت أن مثل هذه الخطوات تُعيد إنتاج الانقسام، وتخلق أجسامًا موازية تزيد المشهد تعقيدًا.
داخل المجلس الرئاسي نفسه: الانقسام حاضر
حتى داخل الجهة المصدِرة للمبادرة، لم يكن الصوت واحدًا. عبد الله اللافي، أحد أعضاء المجلس الرئاسي، نفى أن تكون الوثيقة قد أُقرت بشكل جماعي، بل أكد أنها لا تُعبر عن موقف المجلس كمؤسسة. وبتصريح مباشر قال إن أي إعلان أحادي من أحد الأعضاء لا يرتب أثرًا قانونيًا. غياب بيان رسمي موحد من المجلس الرئاسي زاد من ارتباك المشهد، وأضعف موقف المبادرة في نظر المتابعين، حتى أولئك المتعاطفين مع مبدأ تحريك ملف المصالحة.
حكومة الوحدة الوطنية: الصمت أبلغ من الكلام؟
حكومة الدبيبة لم تُصدر موقفًا رسميًا واضحًا حتى لحظة كتابة هذه السطور. البعض فَسّر ذلك بعدم الرغبة في الاصطدام مع طرف تنفيذي آخر، خاصة وأن المجلس الرئاسي لا يُعد طرفًا معاديًا لها. آخرون رأوا في هذا الصمت مؤشرًا على عدم جدّية المبادرة، أو ببساطة، قناعة بعدم جدواها.
منظمات المجتمع المدني والبعثة الأممية: الحذر الدبلوماسي
بعثة الأمم المتحدة لم تُعلّق مباشرة، لكنها عادت إلى عبارتها المفضّلة: “نحذر من الإجراءات الأحادية التي تقوّض فرص التوافق”. موقف لا يرفض صراحة، لكنه لا يمنح غطاءً أيضًا. أما منظمات المجتمع المدني، فقد عبّر بعضها عن ترحيب مشروط بإحياء الحديث عن المصالحة، لكنها حذرت من أن “الخطوات غير التشاركية لا تصنع سلامًا، بل تعمّق الجراح”.
ربما لم يكن هدف الوثيقة هو إثارة الجدل، لكنها فعلت. المواقف التي صدرت، من مختلف الجهات، لم تُناقش مضمون المبادرة بقدر ما تمحورت حول سؤال الشرعية والمسار المؤسسي. المبادرة وُلدت في سياق هش، وحاولت التحرك في مسار غير ممهد. ونتيجة لذلك، اصطدمت بجدار من الشك والرفض – حتى من داخل البيت الذي أطلقها. وهذا يؤكد مرة أخرى أن ملف المصالحة، بما يحمله من حساسية، لا يُحتمل أن يُدار من خارج المؤسسات التشريعية، أو دون توافق واضح، أو بتجاهل الواقع القانوني والدستوري المعقّد الذي نعيشه.
جدوى المقترح سياسيًا واجتماعيًا… خطوة رمزية أم معالجة حقيقية؟
مهما كانت المآخذ القانونية على الوثيقة الصادرة عن المجلس الرئاسي، يصعب إنكار أنها محاولة – ولو محدودة – لاقتحام ملف المصالحة الوطنية من زاوية سياسية. في بلد يعيش فراغًا تشريعيًا شبه مزمن، ويُدير أزماته بالتأجيل، فإن أي مبادرة تحمل في طياتها بعدًا عمليًا تستحق أن تُقرأ سياسيًا واجتماعيًا، لا قانونيًا فقط. لكن السؤال هو: هل ما طُرح يُعبّر عن رغبة جادة في تفكيك الأزمة؟ أم أنه مجرد هيكل إداري يسعى لتسجيل حضور في ملف حساس؟
من المعروف أن الأزمة الليبية ليست بسيطة ولا خطية. إنها تشبه عقدة سياسية واجتماعية ممتدة، تتداخل فيها المعارك المسلحة، والانقسامات المؤسسية، والغياب الكلي للعدالة، مع فقدان الثقة بين الدولة والمجتمع. لا يمكن اختزال هذا التعقيد في تمثيل بلدي جديد أو جسم إداري ينعقد في مدينة سرت، مهما كانت النوايا.
المقترح الذي بين أيدينا يقدم منصب “عضو المصالحة الوطنية” داخل المجالس البلدية، ويقترح تشكيل “مؤتمر عام” يتكوّن من هؤلاء الأعضاء. لكن حين نبحث عمّا يُقال عن المحاسبة، أو الاعتراف بالضحايا، أو جبر الضرر، أو ضمانات عدم التكرار، لا نجد شيئًا. هناك نَفَس تنظيمي، لكن غائب تمامًا البُعد العلاجي للمصالحة. بمعنى آخر: المقترح يُعالج الشكل دون الجوهر، ويرسم خريطة دون أن يُحدد الطريق.
سياسيًا، قد يرى البعض فيه خطوة رمزية تحاول كسر حالة الجمود. في بلد أُنهك من التسويات المؤجلة، قد يكون أي تحرّك محلي نحو “التهدئة” أمرًا إيجابيًا. لكن المشكلة أن الخطوة جاءت من خارج الإطار التشريعي، وبدون توافق، وبدون دعم حكومي أو مجتمعي حقيقي، وهو ما أفقدها كثيرًا من معناها السياسي. الأسوأ من ذلك، أن تشكيل “مؤتمر موازي” للمصالحة، دون تغطية قانونية أو إجماع وطني، قد يُفسر على أنه محاولة لبناء شرعية بديلة، وهي سابقة خطرة في السياق الليبي.
أما اجتماعيًا، فإن أثر المبادرة يبدو محدودًا حتى في أحسن الظروف. قد ترحب بها بعض البلديات – خاصة تلك التي تعاني من نزاعات محلية مزمنة – بحثًا عن دور سياسي أو مساحة تفاوض جديدة. لكن دون موارد، ودون دعم قانوني، وبدون صلاحيات تنفيذية واضحة، سيبقى “عضو المصالحة” منصبًا رمزيًا آخر يضاف إلى لائحة المبادرات غير المكتملة.
الضحايا – وهم جوهر أي عملية مصالحة – غُيّبوا عن النص تمامًا. لم يُذكر شيء عن حقوقهم، عن المساءلة، عن المصالحة المجتمعية الحقيقية. في ظل هذا الغياب، من غير الواقعي توقّع أن تستقبلهم المجتمعات المتضررة بترحيب، أو أن تُعطي هذه المبادرة شرعية مجتمعية من الأساس. حتى التكوينات القبلية، التي تُشكل عنصرًا محوريًا في النزاع الليبي، لم يُقدّم المقترح تصورًا واضحًا لكيفية التعامل معها، لا قانونيًا ولا اجتماعيًا.
النتيجة؟ نحن أمام مبادرة قد تُسهم في الحل، إذا ما جرى تطويرها وتضمينها ضمن مشروع قانون حقيقي يصدر من السلطة التشريعية، ويتضمن رؤية شاملة للعدالة الانتقالية: من المحاسبة إلى جبر الضرر، إلى الإصلاح المؤسسي. لكن في المقابل، يمكن أن تُعقّد الأمور إذا استُخدمت لتأسيس جسم بديل، أو لإعادة تدوير النخبة دون الاعتراف بالضحايا.
المبادرة الصادرة عن المجلس الرئاسي تحمل دلالة سياسية أكثر مما تحمل قدرة فعلية. هي محاولة للقول: “ها نحن نتحرك”، لكنها لا تجيب على السؤال الأصعب: “إلى أين؟ وبأي أدوات؟” وبين الشكل والجوهر، يبدو أن المقترح انشغل بالأول، ونسي أن المصالحة تبدأ من الإنصاف لا من التمثيل.
من الفكرة إلى القانون… ما الذي يجب أن يتضمنه أي مشروع مصالحة حقيقي؟
إذا تجاوزنا الجدل حول شرعية “المرسوم” الصادر عن المجلس الرئاسي، فإن ما يبقى أمامنا هو سؤال جوهري: ما الذي يجب أن يتضمنه أي مشروع قانون يُراد له أن يُحدث مصالحة وطنية حقيقية؟. من الخطأ الانطلاق من فرضية أن الوثيقة المذكورة تحتاج إلى تعديل أو تحسين، لأن ذلك يُضفي عليها اعترافًا ضمنيًا غير قائم. الأجدر أن نعاملها كفكرة أولية، تُناقش ضمن سياق سياسي وقانوني أشمل، على أن يُعاد تقديمها – أو تجاوزها – عبر مشروع قانون متكامل يصدر عن الجهة الوحيدة المخوّلة بذلك: مجلس النواب.
أي مقترح جاد لا بد أن يُبنى على أساس دستوري واضح، يستند إلى التعديل الحادي عشر، ويأخذ بعين الاعتبار الاتفاقات السياسية السابقة والوقائع على الأرض. الأهم من ذلك: يجب أن يُربط بمسار العدالة الانتقالية بكل أركانه، لا أن يُعزل عنها كما حدث في مقترحات سابقة. مصالحة بلا محاسبة ليست مصالحة. وتجاوز الانتهاكات دون كشف حقيقتها أو جبر أضرارها لن يُنتج دولة، بل مجرد هدنة جديدة.
ما الذي نحتاجه إذًا؟ نحتاج أولًا إلى آلية واضحة للمساءلة القانونية، تبدأ بتحديد الجرائم التي لا يمكن العفو عنها، مرورًا بإنشاء هيئات تحقيق مستقلة قادرة على العمل داخل نظام قضائي محترم، وليس فوقه أو بعيدًا عنه. ويجب ألا يكتفي القانون بالتحقيق، بل أن يُنظّم عمل لجنة وطنية لكشف الحقيقة، تملك صلاحية الاطلاع على الأرشيفات الرسمية، والاستماع إلى الشهادات، وتوثيق المفقودين والسجون والمقابر الجماعية، من دون خوف أو انتقاء.
وفي قلب هذا المشروع يجب أن توضع مسألة جبر الضرر، لا كمكافأة رمزية، بل كحق قانوني. تعويض مادي، دعم نفسي، اعتذارات رسمية، وإعادة اعتبار حقيقية للضحايا ولذويهم. كل هذا يجب أن يتم ضمن صندوق وطني مستقل، يخضع لرقابة برلمانية ومجتمعية.
لا معنى للمصالحة إذا بقيت حكرًا على المركز. لهذا يجب أن تتشكل لجان مصالحة محلية في كل بلدية، لا تعكس فقط التنوع الاجتماعي بل تُشرك فعليًا الضحايا والمجتمع المدني في الوساطة وتوثيق النزاعات وإنتاج حلول تراكمية.
وفي قمة هذا البناء المؤسسي، يجب إنشاء مؤتمر وطني للمصالحة، لا كجسم موازي، بل كهيئة تمثيلية جامعة، تشرف على الاستراتيجية العامة، وتضم ممثلين عن البلديات، القبائل، الضحايا، النساء، الشباب. وهذا المؤتمر يجب أن يعتمد ميثاقًا وطنيًا للمصالحة يُقر بقانون، ويتضمن مبادئ لا يمكن التفريط بها: لا انتقام، لا تهميش، لا فرض أمر واقع، ولا إفلات من العقاب.
المبادئ الحاكمة لأي مشروع مصالحة لا يجب أن تُستقى من الشعارات، بل من التجارب المؤلمة التي مر بها الليبيون. العدالة يجب أن تسبق التسويات السياسية، والتمثيل لا يُمنح دون محاسبة، والضحايا لا يمكن أن يكونوا في الهامش بعد اليوم. المصالحة ليست غفرانًا مجانياً، بل عملية اعتراف واعتذار وتعهد حقيقي بعدم التكرار.
وأخيرًا، لا يمكن الحديث عن مصالحة دون الحديث عن الدولة. المصالحة الحقيقية لا تعيش في فراغ، بل ترتبط بإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والقضائية، وكتابة دستور دائم، وتنظيم انتخابات على أساس بيئة تصالحية، لا على ركام انقسام سياسي.
إذا كان هناك مشروع حقيقي للمصالحة يُراد له النجاح، فعليه أن يُولد من رحم البرلمان، وأن يُبنى على ركائز العدالة، لا المجاملة. لا يكفي أن نُنشئ أجسامًا تمثيلية، ما لم تكن مشفوعة بصدق الاعتراف، وصرامة المساءلة، وعدالة توزيع الإنصاف. المصالحة لا تبدأ من مرسوم، بل من إرادة وطنية تُعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، بل لا منسي ولا مُهمّش.
من ردّ الفعل إلى الفعل الوطني – خارطة طريق لتصحيح المسار
بعد كل ما أُثير حول “مرسوم المجلس الرئاسي”، من الطبيعي أن يُطرح سؤال: هل نكتفي برفض النص أم نُعيد فتح الملف من جذوره؟ المؤكد أن المقترح، بما له وما عليه، كشف عن فراغ حقيقي في مسار المصالحة، لكنه في الوقت نفسه أثبت أن الحلول المجتزأة والأحادية لا يمكن أن تؤسس لسلام دائم. ما نحتاجه اليوم ليس مجرد تصحيح وثيقة، بل إعادة بناء كامل للمسار، وفق رؤية وطنية متفق عليها، تُراعي السياق الليبي وتستفيد من تجارب الآخرين دون أن تنسخها.
النقطة الأولى التي يجب الانطلاق منها هي العودة إلى السلطة التشريعية، أي مجلس النواب، كمصدر أصيل لأي تشريع يمسّ التوازن الوطني. لا بد أن يُطرح مشروع قانون جديد للمصالحة، يُصاغ بشراكة حقيقية مع مجلس الدولة، ويستند إلى قواعد العدالة الانتقالية وليس إلى الحسابات السياسية. صياغة هذا المشروع يجب أن تكون نتاج حوار، لا مفاجأة سياسية، ويجب أن يتضمن آليات حقيقية للتمثيل، والمساءلة، والتعويض، وإصلاح مؤسسات الدولة.
لكن القانون وحده لا يكفي. فالمفوضية الوطنية العليا للمصالحة، التي أُنشئت منذ 2021، لا تزال حتى اليوم تعمل دون إطار قانوني ناظم. هذا يجب أن يتغير. يجب أن تُعاد هيكلة المفوضية، بقانون واضح يحدد صلاحياتها، ويمنع تضاربها مع البلديات أو الوزارات، ويضمن تمثيلًا عادلًا ومتوازنًا داخل مجلس إدارتها، بشرط أساسي: النزاهة وعدم التورط السابق في النزاع.
ولأن المصالحة لا تُبنى من القمة فقط، فإن إشراك القاعدة أمر لا بد منه. يجب أن تنشأ لجان مصالحة محلية في كل بلدية، تعتمد بقرارات رسمية وتضم شخصيات موثوقة من الضحايا، والوجهاء، والنساء، والشباب، والقانونيين. هذه اللجان ليست ديكورًا، بل أدوات تفعيل حقيقية على الأرض، تحتاج إلى تدريب، وإطار قانوني، وقدرة على رفع التقارير ومتابعتها.
ما يجمع هذه الجهود هو ميثاق وطني للمصالحة، يُصاغ عبر لجنة وطنية مستقلة، بالتشاور مع جميع الأطراف، ويُقر في البرلمان أو يُعرض على استفتاء شعبي. ميثاق يُجسد الحد الأدنى من التوافق الليبي حول مبادئ لا يمكن المساس بها: الاعتراف، جبر الضرر، عدم الإفلات من العقاب، الحق في الحقيقة، والتعددية. من هذا الميثاق تنبثق استراتيجية وطنية للعدالة الانتقالية تُنَفذ على مراحل: توثيق ومساءلة في السنة الأولى، جبر ضرر ومصالحة مجتمعية في الثانية، وإصلاح مؤسساتي جذري في الثالثة. على أن تُرافق هذه المراحل بحملة إعلامية وطنية تُعيد الثقة تدريجيًا، وتُشجع المشاركة.
ولا يمكن الحديث عن المصالحة بمعزل عن المسار السياسي والدستوري. لا معنى لأي انتخابات أو دستور دائم دون بيئة تصالحية عادلة. يجب أن يُنص بوضوح على عدم أهلية كل من تورّط في انتهاكات جسيمة للترشح أو التمثيل، إلا بعد الخضوع للمساءلة. فالعدالة ليست خصمًا للديمقراطية، بل شرطًا لها.
كل ذلك لن يتم دون حوار وطني جامع، تشرف عليه جهة مستقلة، أو بدعم أممي محدود، يضم ممثلي السلطات، والمجتمع المدني، والضحايا، والقبائل، والنساء، والشباب. الحوار ليس ترفًا هنا، بل ضرورة للبدء من نقطة مشتركة.
أخيرًا، لا مصالحة بلا تمويل. لا بد من إنشاء صندوق وطني خاص بجبر الضرر، تحت إشراف وزارة المالية، وبتعاون دولي مشروط بالشفافية والحوكمة. المال ليس تعويضًا فقط، بل رسالة سياسية بأن الدولة تعترف بالخطأ، وتدفع ثمنه.
المشكلة لم تكن فقط في مضمون “المرسوم”، بل في الطريقة التي صيغ بها، وفي النهج الأحادي الذي حمله. الخروج من الأزمة لا يتم برفض المبادرات فحسب، بل بالتحول نحو بناء مشروع مصالحة وطني حقيقي، يُقرّه القانون، ويحتضنه المجتمع، وتتبناه مؤسسات الدولة. العدالة لا تُطلب بالكلام، بل تُصاغ بخطط، وتُنفذ بشجاعة، وتُبنى على ثقة لا على شعارات.
حين تُصبح الدولة طرفًا في المصالحة – دور البرلمان والمؤسسات الوطنية
في أي بلد يسعى إلى طيّ صفحة النزاع، لا تكفي النوايا ولا تصلح المبادرات المنفردة مهما كانت صياغتها محكمة. المصالحة الوطنية – في جوهرها – ليست مجرّد وثيقة أو هيئة، بل مشروع دولة، تبدأه مؤسساتها، وتحميه شرعيتها، وتغذيه ثقة المواطنين. وفي ليبيا، ورغم كل ما أصاب البنية التشريعية من ضعف وتآكل، يظل مجلس النواب هو الجهة الوحيدة التي يمكنها – من حيث النص الدستوري – أن تُطلق مشروعًا جامعًا له قوة القانون.
هذا الدور ليس مسألة رمزية. التعديل الدستوري الحادي عشر لعام 2021 لم يترك فراغًا في الصلاحيات: السلطة التشريعية حصرية لمجلس النواب، ولا يمكن لقانون حقيقي للمصالحة أن يرى النور دون مروره من هناك. وهذا يتطلب من المجلس ما هو أكثر من الموافقة أو الرفض؛ يتطلب مبادرة فعلية، وشجاعة سياسية، وقدرة على الإنصات لما فشل الجميع في الاستماع إليه: صوت الضحايا، لا فقط صوت النخبة.
لكي يكون للمجلس هذا الدور المحوري، لا بد من تشكيل لجنة دائمة تعنى بالمصالحة الوطنية، لا تكون محاصَصة حزبية أو جهوية، بل فضاءً حقيقيًا للخبرة والتشاور. لجنة تستقبل المبادرات القادمة من المجتمع المدني والمفوضية، وتنظم جلسات استماع مع المتضررين، وتعمل على صياغة مشروع قانون متكامل بالتشاور – عند الحاجة – مع مجلس الدولة.
لكن نجاح هذا الدور البرلماني مشروط بتجاوز الذهنية المركزية. لا يمكن فرض قانون مصالحة من فوق، بل يجب أن يُبنى عبر التشاور الأفقي مع لجان البلديات، نقابات القانونيين، منظمات حقوق الإنسان، وشخصيات اجتماعية وحقوقية من مختلف المناطق. المصالحة لا تُفرض… تُبنى مع أصحابها.
وفي المقابل، لا يمكن للمفوضية الوطنية العليا للمصالحة أن تبقى كما هي. إن لم تُعاد هيكلتها بقانون واضح، فإنها ستظل أداة تقنية بلا روح. يجب أن تُفصّل صلاحياتها، ويُحدد موقعها المؤسسي بين البرلمان والحكومة، وتخضع لرقابة حقيقية تضمن استقلاليتها. لا يُعقل أن تتحول هيئة المصالحة إلى كيان تنفيذي تابع لهذا الطرف أو ذاك.
من جهة أخرى، الحكومة بمختلف وزاراتها ليست طرفًا محايدًا، بل شريك أساسي في التنفيذ. وزارة الحكم المحلي مطالَبة بالإشراف على تشكيل لجان المصالحة المحلية، وتوفير الدعم الفني والإداري. وزارة العدل عليها ربط هذا المسار بمكتب النائب العام، وتوفير الكوادر القانونية، ووضع اللوائح التنفيذية فور إقرار القانون. أما وزارة المالية، فعليها مسؤولية تأمين المخصصات اللازمة، وإدارة صندوق جبر الضرر، في ظل شفافية تامة ورقابة برلمانية.
ويبقى القضاء، وهو الطرف الذي إن غاب أو ضعُف، انهار كل شيء. لا مصالحة دون قضاء مستقل يملك الشجاعة لإصدار أحكام تُعيد الاعتبار للضحايا، وتُحاسب الجناة وفق القانون. نحتاج إلى دوائر قضائية متخصصة في قضايا العدالة الانتقالية، وإلى إشراف قضائي على عمليات الوساطة والتحكيم المجتمعي.
ولا يجب أن ننسى الإعلام والمؤسسات التربوية. الإعلام ليس مجرد ناقل، بل صانع ثقافة مصالحة إذا توفرت له الرؤية. عليه أن يُبسّط المفاهيم، يُواجه الخطاب المتطرف، ويشرح خطوات العدالة الانتقالية بلغة قريبة من الناس. وفي ذات الوقت، يجب أن تدخل مفاهيم المواطنة والمصالحة ضمن مناهج التعليم، لا بوصفها دروسًا نظرية، بل كسياق واقعي لقراءة تاريخنا، وفهم ما حدث، وكيف نمنع تكراره.
المصالحة الوطنية مشروع جماعي، لكن لا أحد يمكنه إطلاقه وتثبيته سوى السلطة التشريعية. كل محاولة خارج هذا الإطار ستبقى عرضة للطعن، أو الانقسام، أو الرفض. المطلوب من مجلس النواب – رغم كل ما يلاحقه من نقد – أن يستعيد زمام المبادرة، لا بالشعارات، بل بالتشريع، والاحتضان، والتشارك. والمطلوب من باقي مؤسسات الدولة أن تتعامل مع المصالحة لا كملف طارئ، بل كبوابة ضرورية للخروج من زمن الاضطراب، نحو دولة لها معنى وقانون.
أزمة الشرعية والفاعلية في مجلس النواب – حين تتآكل المؤسسة ويترنح المسار
من الناحية الشكلية، لا يزال مجلس النواب الليبي هو الجهة التشريعية الوحيدة المعترف بها بموجب الإعلان الدستوري وتعديلاته. لكن الواقع السياسي لا يُقاس بالنصوص وحدها. فمع مرور الوقت، وغياب الانتخابات، واحتدام الانقسام، أصبحت شرعية المجلس أقرب إلى شرعية متبقية بحكم غياب البديل، لا شرعية متجددة برضا الناس أو تجديد تفويضهم.
منذ آخر انتخابات عام 2014، لم تُجر أي دورة اقتراع جديدة. بقي الأعضاء في مواقعهم رغم تآكل المشهد، بينما تصاعدت المطالبات الشعبية بضرورة إعادة تشكيل السلطة التشريعية. ولأن الشرعية السياسية في ليبيا – كما في أي بلد يعاني من هشاشة انتقالية – لا تُبنى فقط على الدستور، بل على التمثيل الفعلي، فقد بدأ كثيرون يرون في البرلمان جسمًا منقطعًا عن الشارع، ومرتهنًا لصراعات داخلية أكثر من انشغاله بصياغة قوانين تخرج البلاد من المأزق.
هذه الأزمة ظهرت بشكل فجّ في تعامل المجلس مع أهم المهام السيادية: إعداد الدستور. ورغم أن الهيئة التأسيسية أنجزت مشروع المسودة في 2017، فإن البرلمان لم يطرحها للاستفتاء حتى الآن. خمس سنوات من الجمود كفيلة بتحويل الأمل إلى خيبة، وإبقاء البلاد في حالة “دستورية معلقة” لا تنتج مؤسسات دائمة ولا عقد اجتماعي جديد.
ولعل الأخطر هو أن المجلس – رغم تمسكه بالصلاحية – لم يمارسها بالجدية المطلوبة في ملفات حساسة مثل العدالة الانتقالية، المصالحة، نزع السلاح، أو قضايا المعتقلين والمفقودين. بدلًا من أن يبادر بتشريعات تُحرك المسار الانتقالي، بقيت القوانين الكبرى مجمدة أو منقوصة، وبعضها صدر في ظل غياب النصاب أو في جلسات مطعون في دستوريتها. وهنا لا تعود المشكلة في النصوص، بل في فقدان الثقة بالآليات التي تُنتجها.
أما على مستوى المشهد السياسي، فقد كان للمجلس دور مباشر – وربما مزدوج – في تعميق الانقسام المؤسسي. سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية وتكليف حكومة جديدة برئاسة أسامة حماد لم يكن مجرد قرار إداري، بل تحوّل إلى نقطة اشتباك وطني، خلقت حكومتين متوازيتين، ومزّقت مشروعية السلطة التشريعية أمام جزء من البلاد. هذا الانقسام جعل تنفيذ أي قانون جديد – حتى لو صدر – أمرًا مشكوكًا فيه، لأن الانقسام لا يفسد الثقة فقط، بل يُعطّل التطبيق.
ومن هنا، ليس مفاجئًا أن نجد المجلس الرئاسي – رغم تجاوزاته – يُحاول ملء هذا الفراغ. وحين تصمت السلطة التشريعية طويلًا، وتفشل في تقديم مشروع مصالحة وطني حقيقي، فإنها تفتح المجال أمام الجهات التنفيذية أو المحلية لإطلاق مبادرات “غير شرعية” لسد الفجوة. تلك هي النتيجة الطبيعية لانسحاب المؤسسة من وظيفتها، مهما احتفظت بصفاتها الرسمية.
الحديث عن إصدار قانون للمصالحة الوطنية لا يمكن فصله عن الحديث عن إصلاح أداء مجلس النواب نفسه. فالمصالحة لا تُنتجها مؤسسة تفتقر إلى شرعية التمثيل، أو تعاني من شلل تشريعي. ما لم يُعاد تجديد البرلمان عبر الانتخابات، ويُصلح داخليًا لضمان النزاهة والفاعلية، فإن أي مشروع مهما كانت جودته، سيبقى معلقًا في فضاء سياسي هشّ، تملأه المبادرات الفردية ويخنقه غياب الثقة. ولن يكون في ليبيا مصالحة حقيقية… ما لم تبدأ من إصلاح المؤسسات التي تُفترض أن تُديرها.
مرفقات مرجعية ومصادر داعمة للتحليل
1. نص المرسوم بقانون رقم 2 لسنة 2025 (كامل)
تم إدراج النص الكامل كما نُشر رسميًا، دون تعديل أو تحليل داخلي، ويُتاح عبر الرابط التالي:
قراءة النص الكامل من موقع المجمع القانوني الليبي
2. مقارنة بين نماذج المصالحة الوطنية الدولية
النموذج | الدولة | طبيعة الآلية | أبرز المكونات | الملاحظات |
لجنة الحقيقة والمصالحة | جنوب أفريقيا | مركزية – مستقلة | كشف الحقيقة – العفو المشروط | ركزت على الاعتراف لا العقاب |
محاكم غاتشاچا | رواندا | محلية – شبه تقليدية | محاكمات علنية – اعتراف – دمج مجتمعي | ركزت على المساءلة المجتمعية |
هيئة الإنصاف والمصالحة | المغرب | مركزية – بتفويض ملكي | توثيق – تعويض – ضمانات عدم التكرار | ركزت على جبر الضرر والمؤسسات |
المشروع المقترح في ليبيا | ليبيا | تمثيلي بلدي – إشراف وطني | تمثيل بلدي – مؤتمر وطني – إشراف إداري | لا يشمل العدالة أو الجبر أو الحقيقة |
3. المبادئ الدولية المعتمدة للمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية
مُستقاة من أدلة وأدبيات الأمم المتحدة والمراكز المختصة، وتشمل:
- الحق في معرفة الحقيقة
- المساءلة وعدم الإفلات من العقاب
- جبر الضرر الفردي والجماعي
- إصلاح مؤسسات الدولة
- إشراك المجتمعات المتأثرة فعليًا
المصدر: Rule-of-Law Tools for Post-Conflict States, OHCHR
4. النصوص القانونية والدستورية ذات الصلة
- الإعلان الدستوري لسنة 2011
عرض الوثيقة على موقع المجمع القانوني الليبي - التعديل الدستوري الحادي عشر (2021)
رابط التعديل الدستوري رقم 11 - مشروع الدستور الليبي (2017)
عرض المشروع كاملاً
5. التوصيات التشريعية المقترحة
- إصدار قانون مصالحة وطني متكامل وفق نهج العدالة الانتقالية.
- إعادة تنظيم المفوضية العليا بقانون واضح ومستقل.
- صياغة ميثاق وطني للمصالحة، يُعرض على البرلمان أو الاستفتاء.
- إنشاء صندوق سيادي مستقل لجبر الضرر.
- إنشاء دوائر قضائية خاصة بالمصالحة والعدالة الانتقالية.
6. الروابط الرسمية والمؤسسية المعتمدة
- مجلس النواب الليبي
- المجلس الرئاسي الليبي
- حكومة الوحدة الوطنية
- منصة المنصة – تصريح بتاريخ 30 أبريل 2025
المراجع
- المجلس الرئاسي الليبي. (2025). المرسوم بقانون رقم 2 لسنة 2025 بشأن انتخاب المؤتمر العام للمصالحة الوطنية. المجمع القانوني الليبي.
https://lawsociety.ly/legislation/مرسوم-بقانون-رقم-1-لسنة-2025-م-بشأن-وقف-آثا/ - الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور. (2017). مشروع الدستور الليبي. المجمع القانوني الليبي.
https://lawsociety.ly/legislation/مشروع-الدستور-الليبي-2017/ - مجلس النواب الليبي. (2011). الإعلان الدستوري وتعديلاته. المجمع القانوني الليبي.
https://lawsociety.ly/legislation/الإعلان-الدستوري-لسنة-2011/ - مجلس النواب الليبي. (2021). التعديل الدستوري الحادي عشر لسنة 2018. المجمع القانوني الليبي.
https://lawsociety.ly/legislation/التعديل-الدستوري-رقم-11-لسنة-2018/ - United Nations Office of the High Commissioner for Human Rights (OHCHR). (2006). Rule-of-Law Tools for Post-Conflict States: Truth Commissions. Geneva: United Nations.
https://www.ohchr.org - International Center for Transitional Justice (ICTJ). (2021). The Role of Transitional Justice in Post-Conflict Societies. New York: ICTJ.
https://www.ictj.org - National Democratic Institute (NDI). (2018). Democracy and Transitional Justice: A Guide for Practitioners. Washington, DC: NDI.
https://www.ndi.org - بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (UNSMIL). (2023). التقارير الدورية بشأن العملية السياسية في ليبيا.
https://unsmil.unmissions.org - الموقع الرسمي لمجلس النواب الليبي. (2025). https://parliament.ly
- الموقع الرسمي للمجلس الرئاسي الليبي. (2025). https://lpc.gov.ly
- حكومة الوحدة الوطنية. (2025). https://gnu.gov.ly
- المنصة. (2025). اعتداء على اختصاص النواب وتوغّل على السياسة التشريعية.
https://almenassa.ly/2025/04/30/اعتداء-على-اختصاص-النواب-وتوغّل-على-الس/
اترك تعليقاً