المصلحة في دعوى إلغاء القرارات الإدارية
المصلحة في دعوى إلغاء القرارات الإدارية – بقلم نائب النيابة الأستاذ مصطفى كمال المهدوي. يناقش هذا المقال أهمية شرط المصلحة كركيزة أساسية لقبول دعاوى إلغاء القرارات الإدارية، ويبرز الدور البارز لهذا الشرط في تحديد جدية الطعون وتأثيرها المباشر على المركز القانوني للطاعنين، عبر استعراض شواهد وأحكام قضائية مصرية وفرنسية وليبية.
بقلم: نائب النيابة
الأستاذ مصطفى كمال المهدوي
السنة الأولى – دراسات قانونية – العدد الأول – أكتوبر 1964
المحتويات
المصلحة شرط لقبول دعوى الإلغاء
دعوى الإلغاء هي الدعوى التي يختصم فيها الأفراد قراراً إدارياً – فردياً كان أو لائحة – صدر مشوباً بعيب من العيوب المتعلقة بالاختصاص أو الشكل أو الانحراف أو مخالفة القانون، ويجب أن تتوافر لرافعها مصلحة شخصية ومباشرة تميِّزه عن غيره. لذلك فقد قضى بأنه وإن كان لا يُشترط في المصلحة المُسوِّغة لطلب الإلغاء أن تقوم على حق أهدره القرار الإداري المطعون فيه – كما هو الحال في دعوى التعويض – بل يكفي أن يمس القرار الإداري حالةً قانونيةً ما بالطاعن تجعل له مصلحة مادية أو أدبية في طلب إلغائه، إلا أنه ومن ناحية أخرى يجب أن تكون تلك المصلحة شخصية ومباشرة، فلا يُقبل الطعن من أي شخص لمجرد أنه مواطن يهمه إنفاذ القانون حمايةً للصالح العام أو أنه أحد أفراد جماعة من الناس تعنيه مصالحها، بل يجب فوق ذلك أن يكون في حالة قانونية خاصة بالنسبة إلى القرار المطعون فيه من شأنها أن تجعله مؤثراً في مصلحة ذاتية للطالب تأثيراً مباشراً – حكم مجلس الدولة المصري الصادر في القضية رقم 322 لسنة 1 ق.
وكان مجلس الدولة الفرنسي قد استقر على هذه القاعدة المباشرة في كافة الدعاوى المرفوعة بطلب إلغاء القرارات الإدارية منذ سنة 1900 بوصف أن دعوى الإلغاء هي حقيقية دعوى وليست دعوى من دعاوى القضاء المقيَّد التي لم يكن يصدر فيها أحكاماً بالمعنى الفني، وإنما مجرد توصية كان للإدارة أن تتجاوزها وتعمل على عكس مقتضاها.
يجب أن تكون المصلحة شخصية ومباشرة
وتنتمي دعوى إلغاء القرار الإداري إلى القضاء العيني، فهي لذلك من الدعاوى العينية التي يجب أن تكون المصلحة فيها شخصية ومباشرة يُقصد منها إزالة كل أثر قانوني للقرار الإداري غير المشروع المخالف للقانون. ولذلك تختلف المصلحة والصفة فيها عن المصلحة والصفة في الدعاوى العادية، فلا يلزم أن يكون رافع الدعوى صاحب حق، بل يكفي أن توجد له مصلحة يمسها القرار الإداري وأن تكون هذه المصلحة شخصية ومباشرة مادية أو أدبية، سواء أكان المدعي هو الشخص الذي صدر بشأنه القرار الإداري أو غيره متى كان لهذا القرار أثر على المركز القانوني للمدعي – حكم المحكمة العليا الصادر في القضية رقم 3 لسنة 2 ق.
لذلك فإنه لا يتصور أن تنهض دعوى الإلغاء غير مستندة إلى حق اعتُدي عليه أو من طاعن صدر القرار فيه بشأن غيره وتكون له مع ذلك مصلحة شخصية في رفع دعوى الإلغاء متى كان القرار المطعون فيه صدر مساساً بمركزه القانوني. ومن أجل ذلك تقرر فقهاً وقضاءً أن مدلول المصلحة والصفة يندمجان في تلك الدعوى بحيث تقتصر شروط دعوى الإلغاء فيما يتعلق برافعها على شرطين هما الأهلية العادية للتقاضي ثم المصلحة والصفة – حكم مجلس الدولة المصري في 15 ديسمبر 1948.
المصلحة المحتملة
ولا يُشترط لاستيفاء شرط المصلحة في دعوى الإلغاء أن تكون للمدعي مصلحة حالَّة من ورائه، بل يكفي أن تكون له مصلحة محتملة. وقد تقرر هذا الحكم في قضاء محكمتنا العليا آنف الإشارة استناداً إلى أن دعاوى الإلغاء أمام القضاء الإداري مقيدة بوقت قصير، فإذا انتظر المدعي فيها حتى تصبح مصلحته محققة فقد تنقضي المدة المقررة لرفع الدعوى.
المصلحة وسيلة للكشف عن جدية الدعوى
المصلحة إذن شرط لقبول الدعوى، ولا تُقبل دعوى الإلغاء من غير ذي مصلحة، فإذا ما رُفعت دعوى من غير ذي مصلحة حُكم بعدم قبولها. والعبرة بتوافر المصلحة يوم رفعها، فيجب أن تكون للطاعن مصلحة وقت رفع الدعوى ولا خلاف في ذلك بين القضائين المصري والفرنسي، وإنما أُثير البحث فيما لو زالت هذه المصلحة أثناء نظر الدعوى وقبل صدور الحكم فيها.
وقد استقر قضاء مجلس الدولة المصري أخيراً في معظم أحكامه الصادرة في دعوى الإلغاء على أنه متى زالت المصلحة التي كانت قائمة وقت رفع الدعوى وأثناء نظرها فإن الأمر يصبح من المسائل الموضوعية التي تستقل المحكمة بتقديرها دون أن يستتبع ذلك أن تحكم بعدم قبولها – حكم مجلس الدولة في القضية رقم 279 لسنة 2 ق في 24-1-50.
فإذا رُفعت دعوى الإلغاء مؤسسةً على مصلحة شخصية مباشرة ثم زالت هذه المصلحة أثناء نظر الدعوى فإنه لا يتحتم على قضاء الإلغاء الفصل فيها دون الالتفات إلى ذلك كما هو الحال في قضاء مجلس الدولة الفرنسي على اطراد، وإنما يكون له أن يحكم برفض الدعوى على أساس زوال المصلحة.
وينبغي أن يكون البحث في الموازنة بين القضاء الفرنسي في هذا الخصوص ومذهب القضاء المصري المخالف له مؤسساً على اعتبار أن المصلحة كشرط لقبول الدعوى لا تعدو أن تكون في حقيقتها وسيلة للكشف عن جدية الطعن، وهو ما أفصح عنه حكم المحكمة العليا المُنوه عنه آنفاً فيما قضى به:
(إنه لا نزاع في أن شرط المصلحة هو الضمان الكافي لجدية الدعوى)وبديهي أن الطعن يفقد جديته حين تزول مصلحة الطاعن قبل الفصل فيه، ومن ثم يستقيم القول بإطلاق يد القضاء الإداري في دعاوى الإلغاء التي تنقضي فيها المصلحة بعد تمام استيفائها وقت رفعها بالنظر فيها بالنسبة لكل قضية بذاتها، بحث ما كان منها قائماً على جدواه وما أضحى من بعد يفتقر إلى جديته. كذلك فإن مذهب القضاء المصري في هذا الشأن هو أقرب استجابةً لدواعي الاعتبارات العملية من مذهب القضاء الفرنسي، وباستقراء أحكامه في هذا المجال يبين بجلاء أنه لا جدوى من تصحيح الأوضاع القانونية في خصومةٍ منتهية متجردة من أي حق شخصي للطاعنين ولا تقوم إلا على اختصام القرار في ذاته من ناحية عينية.
فلقد تقرر في طلبات الإلغاء أنه تجب التفرقة بين ما هو مقدم منها من أشخاص لهم حقوق اعتدت عليها القرارات المطعون فيها، وما هو مقدم منها من أشخاص لم تعتدِ القرارات المطعون فيها على حق من حقوقهم وإنما يكون لهم مجرد مصلحة مستها القرارات المطعون فيها، وأنه في الحالة الأولى لا يكون الأمر مقصوراً على مخاصمة القرار الإداري في ذاته لمخالفته للقانون أو لسبب آخر من أسباب الإلغاء، بل يتجاوز ذلك إلى الحكم في موضوع الحق بمعنى أن يكون الإلغاء في هذه الحالة كوسيلة لمنع الاعتداء على الحق.
وأنه في الحالة الثانية – والتي يستهدف الطاعنون فيها زوال العيب الذي شاب القرار المطعون فيه – فإن تصحيح الأوضاع القانونية التي يمسها هذا القرار ينبني عليه انتفاء المصلحة من الطعن وافتقاره إلى جدواه، مما يستقيم القضاء فيه بالرفض لزوال المصلحة – حكم مجلس الدولة الصادر في 16 مايو 1948.
المصلحة مآلاً كوسيلة للكشف عن جدوى الأحكام
تلك هي نظرية المصلحة كما تناولها الفقه والقضاء، فهي في مصر وفي فرنسا وفي القضاء الإداري الليبي شرط لقبول الدعوى يتعين توافره وقت رفع دعوى الإلغاء، فإذا ما زالت المصلحة بعد رفع الدعوى وقبل الفصل فيها فلا التفات إلى ذلك في فرنسا ابتغاء تصحيح الأوضاع القانونية بوصف انتماء دعاوى الإلغاء إلى القضاء العيني، بينما يُسوِّغ المذهب المصري النظر إلى الطعن في ذاته وعما إن كان لا يزال على جدواه بعد زوال المصلحة أم افتقر إليها، والقضاء برفض ما افتقر من دعاوى الإلغاء إلى جديته استناداً إلى زوال المصلحة.
ويبدو أن القضاء المصري أرجح رأياً في هذا الشأن من القضاء الفرنسي، وهو ما دعانا إلى النظر في دعاوى الإلغاء التي يُطالب فيها بإلغاء قرار إداري حين تكشف أوراقها بجلاء لا لبس فيه عن أن الطعن لن يجديه إلغاؤها شيئاً، ولو كانت له مصلحة ظاهرة يمسها القرار المطعون فيه وقت رفع الدعوى وحين الفصل فيها.
ويمكن تصور هذه الواقعة عملاً كما لو صدر قرار معدوم من لجنة التحكيم الثانية للطعون الضريبية بعدم قبول التظلم من قرار اللجنة الأولى شكلاً لتقديمه بعد الميعاد، فقد نُص في القانون رقم 501 أ لسنة 1923 على أنه يجوز لذوي الشأن التظلم من القرارات الصادرة في التظلمات الضريبية من لجنة التحكيم الأولى إلى اللجنة الثانية في موعد لا يتجاوز 30 يوماً من تاريخ إعلان هذه القرارات إليهم. فإذا صدر قرار هذه اللجنة بعدم قبول التظلم شكلاً لتقديمه بعد الميعاد، وطُعن على هذا القرار بدعوى الإلغاء أمام المحكمة العليا في ميعاد الـ60 يوماً المقررة لرفع هذه الدعوى بأوجه تكشف عن انعدام هذا القرار على نحوٍ يتعين معه إعادة التظلم إلى اللجنة الثانية لتقضي فيه من جديد، وكانت المصلحة ما انفكت قائمةً إلى حين الفصل في دعوى الإلغاء هذه، فهنالك نكون بصدد حالة تُسوِّغ النظر في جدوى إلغاء مثل هذا القرار.
ونرى على ضوء تطور نظرية المصلحة في مذهب القضاء المصري وأساسها هو الكشف عن جدية الطعن وجدواه أنه يتعين القضاء برفض هذه الدعوى لانعدام المصلحة فيها مآلاً؛ إذ إنه يترتب على إلغاء القرار المطعون فيه في هذه الحالة إعادة التظلم إلى اللجنة الثانية للنظر فيه بالحالة التي قُدم بها طعناً على قرار اللجنة الأولى وهو مُقدَّم بعد الميعاد، ولن يُقضى فيه إلا بعدم القبول. وهذا النظر يُبرره الحرص على جدية التقاضي أمام المحكمة العليا وجدوى الأحكام التي تصدر فيها.
اختصاص المجلس شاملاً ومطلقاً دون…
ولقد وافق هذا الرأي حكم حديث لمجلس الدولة المصري قضى فيه برفض الطعن المقدم من موظف ضد قرار صدر بتوقيع جزاء تأديبي عليه من رئيسه المباشر، ناعياً عليه بعيب عدم الاختصاص متى صدر بعد رفع الدعوى قانونٌ أعطى لهذا الرئيس الاختصاص بتأديبه ولا جدوى من رد الدعوى التأديبية إليه عملاً بنصوص القانون الجديد ليفصل فيها مرةً أخرى.
وقد جاء في هذا الحكم ما يلي:
لئن كانت المخالفة التي جوزي المدعي بسببها هي مخالفة مالية وكانت محاكمته عنها وقت إصدار القرار المطعون فيه وحين رفع طلب إلغائه مما يدخل في اختصاص المجلس التأديبي للمخالفات المالية المشكَّل بالمرسوم بقانون رقم 132 لسنة 1952، وقد جاء فيه تحديد اختصاص المجلس شاملاً ومطلقاً دون تفرقة بين الموظفين الداخلين في الهيئة سواء على وظائف دائمة أو مؤقتة وبين الخارجين عنها، لئن كان ذلك، إلا أنه قد صدر بعد ذلك القانون رقم 73 لسنة 57 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 210 لسنة 51 قاضياً في مادته الثالثة بإلغاء المرسوم بقانون رقم 132 لسنة 1952، وبذلك عادت ولاية تأديب الموظفين المؤقتين إلى الوضع الذي كانت عليه قبل صدور المرسوم بقانون رقم 132 لسنة 1952، وأصبح تأديب المدعي وتوقيع الجزاء عليه بما في ذلك فصله من اختصاص مدير الجامعة كما كان الحال قبل إنشاء المجلس التأديبي للمخالفات المالية.
ومن ثم فإن إلغاء القرار المطعون فيه استناداً إلى أن المجلس كان هو المختص وقت إصدار القرار يكون عبثاً غير مجدٍ لزوال علته ما دام التشريع القائم الآن يعتبر مدير الجامعة هو المختص بالتأديب بالمدى المشار إليه آنفاً، ويكون التشريع الجديد كأنه صحح القرار موضوع النزاع بإزالة العيب الذي كان يعتوره وهو عيب عدم الاختصاص – حكم مجلس الدولة المصري الصادر في القضية رقم 217 لسنة 4 ق بتاريخ 9 مايو 59، مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا – السنة الرابعة (ص 1242).
اترك تعليقاً