Skip to main content

أزمة اللغة العربية في بلادنا

اللغة العربية، ذلك الوعاء الذي حمل ثقافة وحضارة العالم العربي عبر القرون، تواجه اليوم تحديات جسيمة تهدد بقاءها وسلامتها. من الأخطاء الإملائية والنحوية المنتشرة في النصوص الرسمية إلى ضعف الكفاءة اللغوية حتى بين المتخصصين، تبدو لغتنا الأم في حالة احتضار. هذه الأزمة ليست مجرد مشكلة تعليمية، بل هي مؤشر على تراجع الاهتمام بالعربية كلغة حية تعبر عن هويتنا وثقافتنا. فما الذي أوصلنا إلى هذا الوضع؟ وكيف يمكن أن نعيد الحياة إلى لغتنا العريقة؟

كتب أحد أصدقاء الفيسبوك بمنتهى الألم والحسرة عن اللغة العربية عندما شاهد لافتة رسمية على إحدى الطرق مكتوب عليها “ممنوع الاستياج” بمعنى “ممنوع الاجتياز”. أضفت إليه أني شاهدت في أحد المحاضر “شياز” بمعنى “سياج”، وكثيرًا ما أسمع كلمة “جواز” بمعنى “زواج” من مأذون شرعي يطلب من الوكيل أن يقول “جوزتك موكلتي”، وهكذا…

ما يلفت النظر أن اللغة العربية في بلادنا تحتضر. إذا نظرنا للكتابة، نجد أنه نادرًا ما تجد نصًا خاليًا من الأخطاء سواء في الإملاء أو النحو أو الصرف، بالإضافة إلى رداءة الخطوط. يستثنى من ذلك فقط أغلب أجيال ما قبل سبتمبر الذين وصل تعليمهم إلى المرحلة الجامعية في الكتابة دون النطق.

عندما ناقشت المرحوم الدكتور سالم ارجيعة، أستاذ القانون المدني بكلية الحقوق جامعة بنغازي، قال لي: “لو أننا نصحح على اللغة ما نجح أحد، ولكن نحن نصحح على الفكرة، ولو كتبت بلغة ركيكة. ولو لم نفعل ذلك لانهار التعليم العالي في بلادنا.”

أما إذا تحدثنا عن اللغة المنطوقة، فإن الأخطاء تكاد تشكل نسبة 99% من كلام المتحدثين بها. فكم عدد الذين يميزون بين حرفي (ض) و(ظ) في الكلام، أو حروف القلقلة أو الغنة، أو يميزون بين همزة الوصل وهمزة القطع، أو ينطقون مخارج الحروف بطريقة صحيحة، بما فيهم حتى أولئك الذين تخصصوا في اللغة العربية؟ كم عدد الذين يستطيعون كتابة الأرقام بطريقة صحيحة أو حذف حروف العلة في حالاتها؟

الحقيقة التي قد يجهلها أو يتجاهلها الكثيرون هي أن اللغة العربية ليست لغتنا الأم. فاللغة الأم هي التي يتحدثها الإنسان منذ طفولته بطريقة صحيحة دون أن يتعلم قواعدها في المدارس ويحب بها ويكره ويعبر بها دون تكلف أو تحضير. فالطفل الإنجليزي أو الفرنسي يتحدث بلغته وفقًا لقواعدها دون أن يتعلمها في المدارس. ولو رجع بنا الزمن أربعة عشر قرنًا، لوجدنا الأطفال والرجال والنساء يتحدثون اللغة العربية بطريقة صحيحة وسليمة دون أن يطلعوا على درس واحد في قواعدها ويفهمون مفرداتها دون أن يفسرها لهم أحد.

فلغتنا الحقيقية هي اللهجة الليبية، وهي لغة مشتقة من اللغة العربية ولكن تختلف عنها في الكثير من مفرداتها وقواعدها. لو كانت لغتنا لما احتجنا للتفسير اللغوي للقرآن الكريم، ولا للشعر الجاهلي. لنتساءل: هل نحن نستعمل المفردات الموجودة في القرآن أو الشعر الجاهلي في لغتنا اليومية؟ ولو استعملناها، هل يفهمها المخاطب بها كما فهمها العرب الأوائل؟

اللغة العربية لغة قديمة عاصرت اللغة الرومانية واللغة اليونانية القديمة اللتين اندثرتا، إلا أن ما يحفظ اللغة العربية هو أنها لغة القرآن الكريم، ولغة الدين الإسلامي. ثم أن هذه اللغة توحدنا مع الدول العربية التي لولاها لكانت لكل بلاد منها لغة خاصة بها. فهي لغة مدرسية أو رسمية لا نتحدثها في بيوتنا، إنما نكتبها فقط ونادرًا ما نتحدثها إلا في المراسم والاحتفالات.

نظرًا لأهمية هذه اللغة، فإنه يجب أن نعطيها القدر الأكبر من العناية والاهتمام في التعليم، وإلزام إدارات الدولة أن تتقيد بقواعدها. وأتساءل: لماذا ألغيت مادة الخط ومادة الإملاء في مدارسنا؟ إنه في بعض الدول العربية، مثل الجمهورية السورية، فإن اللغة العربية تدرس في جميع مراحل الدراسة من الابتدائي إلى الجامعي، وإن الرسوب فيها يتعين معه إعادة السنة ولا يوجد دور ثان. والخط والإملاء مادتان أساسيتان، ولذلك تلاحظ أن لغة الدول في الشرق العربي أفضل بكثير منا، خاصة في الكتابة.

لعلني في هذا المقام أتذكر موقفين متناقضين: الأول أني كنت شغوفًا باللغة العربية وأتابع خطابات السيد حسين مازق، رحمه الله، فكانت لغته العربية سليمة لا يمكن أن تكتشف أي خطأ نحوي أو صرفي كتابة ونطقًا. كنا ننظر إلى هذا الجيل على أن ثقافتهم العربية ضحلة، فهم جيل يتقن اللغتين الإيطالية والإنجليزية بحكم أنهم عاشوا في العهد الإيطالي وعهد الإدارة البريطانية. عندما سألت أحد أقاربي من جيلهم قال لي إن السيد حسين مازق وحسين المبروك وآخرين شعروا بنقطة الضعف هذه فاتفقوا مع المرحوم الشيخ أحمد مرسي، وهو خريج جامعة الأزهر كلية اللغة العربية، فنظم لهم دروسًا لمدة أربع سنوات كانت السبب في كفاءتهم اللغوية.

أما الموقف الثاني فهو أنه جمعنا لقاء مع الشاعر المبدع راشد الزبير، وتلا علينا قصيدة رائعة في حب مدينة بنغازي. وكان أحد الحضور ادعى أنه شاعر وأعد قصيدة على حب بنغازي وتلاها، فكانت كلها أخطاء لغوية، لا فرق عنده بين الفاعل والمفعول والجار والمجرور والجمع والمفرد. استمع السيد للقصيدة ورد عليه بمنتهى الأدب قائلاً له إن فكرة القصيدة جيدة، ولكن أنصحك يا ابني أن تطور لغتك العربية وتعيد دراسة النحو والصرف. فرد عليه معاندًا بأن النظرية الحديثة في الشعر لا تتقيد بقواعد اللغة، ولا أدري من أين أتى بهذه النظرية.

لماذا لا يقوم من يشعر بالضعف في اللغة العربية بالاقتداء بالسيد حسين مازق؟ ولماذا لا تقام دورات مستمرة لتطوير لغتنا العربية، لغة القرآن الكريم؟

الحديث يطول وله بقية بإذن الله.

بقلم: المستشار جمعة عبدالله بوزيد
بتاريخ: 21 أبريل 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *